يا ويلي على إعلام الامة .. عربيٌ بلهجة غير عربية
أ. د. هاني الضمور
08-08-2025 04:12 PM
يا ويلي على إعلامٍ يُسمّى عربيًا، ولسانه غريب، وقلبه بارد، وضميره مفقود!
أيها السادة، لسنا في حاجة إلى محللين سياسيين ولا خبراء استراتيجيات حتى ندرك أن ما يُبث عبر كثير من الشاشات العربية، لم يعد إلا ضجيجًا بلا روح، مسرحًا للتمويه والتضليل، وتمرينًا دائمًا على قلب الحقائق.
نفتح التلفاز لنبحث عن فلسطين، فنجد حفلات.
نبحث عن غزة، فنجد سباقات طبخ ومسابقات غناء.
نبحث عن الحقيقة، فنجدها مشوشةً بعبارات “الطرفان”، و”الاشتباكات”، و”الوضع المعقد”.
أما القاتل، فغائب.
وأما المجازر، فتُمرر على شكل تقارير باردة مصحوبة بموسيقى حزينة، وكأنها مادة للشفقة، لا للغضب.
يا ويلي على إعلامٍ يُفترض أنه صوت الشعوب، فإذا به صوت المموّل، وتوقيع المُعلن، وتوجّه المالك!
يا حسرةً على إعلاميين عرب يعيشون في عواصم كبرى، ويحملون وجوهًا لامعة، ولكنهم بلا موقف، بلا كلمة، بلا إحساس حتى وهم يرون الموت يُبثّ على الهواء مباشرة من غزة، ورفح، وجنين، وصنعاء.
ألم تسألوا أنفسكم أين ذهبت الجملة الصادقة؟
أين غاب المذيع الذي يبكي بحرقة حين يُذبح أهله؟
أين الصحفي الذي ينسحب على الهواء احتجاجًا؟
أين القناة التي تخرج عن النص الرسمي لتقول: كفى!
في زمن مضى، كان الصحفي العربي يقاتل بالكلمة، يُطارد، يُعتقل، يُنفى، لا لشيء، إلا لأنه نقل الحقيقة كما رآها، لا كما أُمليت عليه.
اليوم؟ أصبح الصحفي مقيمًا في القصور، يتلقى المعلومة كما يتلقى “النشرة الجوية”، يُعيد صياغتها وفق تعليمات الإدارة، لا وفق حرارة الضمير.
في خضم الحرب على غزة، حين كانت الطائرات تحرق البيوت على من فيها، لم نرَ من القنوات العربية الكبرى إلا تردّدًا بائسًا، وتغطية باهتة، ومحاولات مفضوحة للموازنة بين الضحية والجلاد، وبين الحقيقة والدبلوماسية، وكأنهم يخشون أن يزعجوا القاتل بذكر اسمه.
القنوات ذاتها التي كانت تُفرغ ساعات البث لنقل جنازة ملك، أو خطاب مسؤول، لم تُفرغ دقيقةً واحدة لبثّ صرخة أمٍ تبحث عن أطفالها تحت الركام.
الإعلام ذاته الذي يفتح الهواء لعرافة تتنبأ بمستقبل الحُكّام، لا يجد متسعًا لبثّ مشاهد اللاجئين الهاربين من نار الحرب!
لماذا؟
لأن الإعلام العربي – في معظمه لا كله – صار رهينة المصلحة السياسية، وأداة في يد الحاكم لا في يد الحقيقة.
المذيع لم يعد ناقلًا للخبر، بل منفّذًا لسياسة، وجزءًا من فريق العلاقات العامة لنظامه أو لممول قناته.
الحياد أصبح غطاءً للتواطؤ، والموضوعية أصبحت قناعًا للبرود.
في المقابل، حين تجرأ بعض الصحفيين العرب العاملين في الخارج على قول الحقيقة، تم استدعاؤهم، وتهديدهم، وفصلهم من أعمالهم.
بعضهم كتب “غزة تُباد”… فطُرد.
بعضهم نشر صورة طفل تحت الأنقاض… فاستُدعي للتحقيق.
أما الباقون، فقد قرأوا الرسالة جيدًا: اصمت أو غادر.
لماذا نذكر هذا؟
لأن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الوعي.
ولأن الكلمة، في زمن التضليل، سلاح لا يقل خطورة عن البندقية.
وحين يتحوّل الإعلام العربي إلى آلة لإعادة تدوير رواية العدو، فإنه لا يخدم المشاهد، بل يخذله.
لا يُعري الظلم، بل يُلبسه ربطة عنق، ويقدمه في قالب ناعم مغلف بـ”الحياد”.
المأساة أن بعض القنوات العربية باتت تنقل الخبر من الصحافة الإسرائيلية أولًا، ثم “تتحفظ” على رواية الشهود في غزة!
بات بعض الإعلاميين العرب يتحدثون عن “حقوق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وكأنهم ناطقون باسم جيش الاحتلال.
أصبحنا نرى التقارير تُكتب بلغة العدو، وتُبث بوجوه عربية، لكن الصوت داخليًا مبرمج على ألا يزعج المركز الرئيسي.
أين هم الإعلاميون الذين استقالوا من BBC عام 1956 احتجاجًا على العدوان الثلاثي؟
أين أمثال محمود مرسي، الذي قال: “لا يمكنني أن أعمل في دولة تقصف أهلي”؟
هل انتهت النخوة؟
هل جفّ حبر الشرف في أقلام المذيعين؟
أم أن “الراتب” أقوى من “الواجب”؟
لن نطلب من الجميع أن يكونوا أبطالًا، ولا أن يرموا المايكرفون على الهواء.
لكننا نطلب فقط أن لا يكونوا شركاء في خيانة الحقيقة.
أن لا يتحوّلوا إلى ديكور أنيق في غرفة أخبار بلا شرف.
أن لا يصبحوا حراسًا على أبواب التضليل.
يا ويلي على إعلام عربي…
كان يُفترض أن يُعبّر عنا، فإذا به ينطق باسم سوانا.
كان يُفترض أن يكون مرآتنا، فإذا به شاشة مشوشة لا تعكس سوى مصالح الممول.
ويا حسرةً على أمة، صار إعلامها أقسى من عدوّها!