الأزمات السعيدة… ولادة الفرح من رحم المحنة
لانا ارناؤوط
13-08-2025 11:44 AM
في مسار الحياة، تأتي الأزمات كضيوف غير مرغوب فيهم، تدخل فجأة وتفرض حضورها الثقيل، تقلب الموازين وتعيد ترتيب المشهد من جديد نرتبك أمامها، نتشبث بما كان، ونحاول عبثًا إيقاف ما لا يمكن إيقافه ومع ذلك، حين نعيد النظر بعد أن يهدأ الغبار، نجد أن بعض هذه الأزمات لم تكن إلا جسورًا خفية نقلتنا من ضفة إلى أخرى، وأن ملامحها القاسية كانت تخفي في طياتها هدية لا تُرى إلا بعد أن نمر بالتجربة كاملة الأزمة السعيدة ليست مجرد حدث مفاجئ ينتهي بنتيجة جيدة، بل هي حالة وعي عميقة تجعلنا نقرأ الألم بلغة مختلفة، ونفهم أن بعض الانكسارات ما هي إلا عملية نحت لملامح جديدة في أرواحنا.
كثيرون فقدوا وظائفهم وشعروا أن الأرض انسحبت من تحت أقدامهم، لكنهم اكتشفوا لاحقًا أن هذا الفراغ الإجباري كان نافذة نحو حياة لم يتخيلوها من قبل، نحو شغف دفين كان يختبئ خلف انشغالاتهم اليومية آخرون عاشوا تجارب مرض أو إصابة أجبرتهم على التوقف، فإذا بهذا التوقف يمنحهم فرصة لمراجعة ذواتهم وإعادة تقييم أولوياتهم، بل ويدفعهم إلى مسارات إنسانية أو إبداعية لم تكن لتخطر لهم لو استمر كل شيء كما كان ، حتى التعطيلات الصغيرة، تلك التي نعتبرها مجرد حوادث مزعجة، قد تخفي قصصًا سعيدة ، كم من مسافر فاته قطار أو تعطلت طائرته ليكتشف أن القدر كان ينقذه من خطر أو يرتب له لقاءً سيغير حياته، وكم من موعد ألغي في اللحظة الأخيرة ليتيح مساحة لحدث أجمل لم يكن في الحسبان.
الطبيعة أيضًا تعرف كيف تنسج الأزمات السعيدة ، فحرائق الغابات المدمرة، رغم ما تحمله من مشاهد مأساوية، تُطلق في الأرض بذورًا لا تنبت إلا تحت تأثير الحرارة الشديدة، وتفسح المجال لنمو نباتات جديدة تعيد التوازن للنظام البيئي. الفيضانات التي تجرف معها البيوت أحيانًا تُخصب التربة وتعيد لها الحياة، والزلازل التي تعيد تشكيل تضاريس الأرض قد تفتح ينابيع أو تكشف عن ثروات مخبأة في أعماقها، وكأن الكون نفسه يعرف أن بعض الولادات تحتاج إلى صدمة أولًا، وأن الفوضى ليست سوى خطوة أولى نحو إعادة الترتيب.
في التاريخ، تتجلى الأزمات السعيدة في صور متعددة، حروب أفرزت تقنيات غيرت وجه العالم، أزمات اقتصادية أنجبت أفكارًا مبتكرة لإدارة الموارد، كوارث سياسية فتحت الطريق أمام حركات إصلاحية كبرى، سقوط الإمبراطوريات القديمة، على قسوته، منح الشعوب فرصة لاستعادة هويتها، وانهيار الأسواق دفع البشر إلى تطوير أنظمة مالية أكثر مرونة، وكأن التاريخ يكرر لنا الدرس نفسه: أن ما نراه نهاية قد يكون في جوهره بداية متنكرة.
لكن سر الأزمات السعيدة لا يكمن في الحدث نفسه بقدر ما يكمن في أعيننا التي تراه ، فالأزمة هي امتحان للطريقة التي نختار أن نتعامل بها مع الحياة، هي دعوة لإعادة تعريف مفاهيمنا عن النجاح، والفشل والخسارة والربح. هناك من يختار أن يغرق في الحزن والندم، وهناك من يمد يده وسط الظلام باحثًا عن خيط ضوء صغير يتمسك به حتى يشتد ويصبح طريقًا جديدًا، الأزمة السعيدة هي ثمرة صبر وإيمان، وهي انعكاس لقدرتنا على تحويل الألم إلى طاقة، والخيبة إلى حكمة، والانكسار إلى نهوض أكثر ثباتًا.
ربما لا نستطيع أن نرحب بالأزمات حين تطرق بابنا، وربما لا نملك ترف التفاؤل ونحن في قلبها، لكننا حين ننظر إلى الوراء بعد سنوات، ندرك أن بعض الطرق التي كنا نخشاها كانت الطريق الوحيد الذي سيصل بنا إلى ما كنا نبحث عنه طوال الوقت ، عندها نفهم أن السعادة ليست دائمًا وليدة الراحة، وأن الفرح الحقيقي أحيانًا يولد من رحم المحنة، وأننا، مثل الأرض بعد المطر العاصف، نحتاج أحيانًا إلى غمر قاسٍ حتى تفيض فينا الحياة من جديد.