الإدارة الاستراتيجية والعدالة التنظيمية وأثرها على سوق العقار السعودي
18-08-2025 10:49 AM
كتب رجل الأعمال السعودي أ. إبراهيم القريشي
في زمن يشهد فيه الاقتصاد السعودي تحولات تاريخية غير مسبوقة، تتجه الأنظار نحو القطاعات الحيوية التي تشكّل دعائم الرؤية الوطنية الطموحة 2030، ويأتي قطاع العقار في مقدمتها، ليس فقط لارتباطه المباشر بجودة الحياة، بل لدوره المحوري في تحفيز الاستثمار، وتوفير فرص العمل، ودعم النمو العمراني المستدام.
ومع تسارع التغيّرات، بات من الواضح أن الاعتماد على الأساليب الإدارية التقليدية لم يعد كافيًا لمجاراة تطلعات المرحلة المقبلة. في هذا المشهد المتسارع، يبرز مفهوم الإدارة الاستراتيجية كأداة ضرورية لرسم ملامح المستقبل المؤسسي، وفي المقابل، تظهر العدالة التنظيمية كأرضية إنسانية وتنظيمية لا غنى عنها لضمان الالتزام، والتحفيز، وتحقيق الانتماء داخل بيئة العمل.
الإدارة الاستراتيجية، بمفهومها الحديث، ليست مجرد تخطيط بعيد المدى ولا مجرد وضع رؤى على الورق، بل هي أسلوب تفكير شامل يبدأ من إدراك الواقع، ويمتد إلى استشراف المستقبل، متضمنًا تحليل البيئة، واختيار المسارات، ومراقبة التنفيذ، وتعديل الاتجاه عند الحاجة. في السوق العقاري السعودي، الذي يتأثر بعوامل اقتصادية، وتشريعية، وسلوكية معقّدة، تصبح هذه المنهجية بمثابة البوصلة التي توجه المنشآت نحو التفوق في بيئة مليئة بالتحديات.
ولكن، ما قيمة الاستراتيجية إذا لم تُحتضن من قبل من سيقومون على تنفيذها؟ هنا تمامًا تتقاطع الإدارة الاستراتيجية مع العدالة التنظيمية. فالموظف الذي يشعر بالعدالة في تقييم جهوده، وفي طريقة التعامل معه، وفي توزيع الفرص والمكافآت، سيكون أكثر التزامًا، وأقوى حافزًا، وأكثر استعدادًا للعطاء. العدالة هنا ليست مجرد شعور داخلي، بل هي طاقة تدفع الإنسان للعمل بحب، وتحمي المؤسسات من النزاعات الداخلية، والهدر البشري، وتقلّب مستويات الأداء.
في القطاع العقاري تحديدًا، حيث تتداخل التخصصات وتتنوع المهام وتتصاعد الضغوط، تصبح العدالة التنظيمية بمثابة صمّام الأمان للاستقرار. فغيابها لا يعني فقط فقدان الثقة، بل قد يترتب عليه انسحاب الكفاءات، وتراجع الروح المعنوية، بل وربما تأخير تسليم المشاريع، وزيادة التكاليف التشغيلية بشكل يصعب السيطرة عليه.
من هنا، يتجلّى التكامل العميق بين الإدارة الاستراتيجية والعدالة التنظيمية. الإدارة تخطط وتوجّه، والعدالة تضمن أن تكون بيئة العمل حاضنة لهذه التوجهات. وما لم يتم بناء بيئة يشعر فيها الجميع بالإنصاف والتقدير، فإن الاستراتيجيات - مهما كانت محكمة - ستظل حبراً على ورق.
أما على مستوى الأثر الكلي، فإن الجمع بين هذين المفهومين داخل المؤسسات العقارية يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في السوق السعودي. فحين تتأسس الشركات على قواعد من الشفافية والتخطيط المحكم والعدالة في التعامل، فإن الأداء المؤسسي يتحسن، وثقة العملاء والمستثمرين تزداد، والهدر في الوقت والموارد يتناقص. الأهم من ذلك، أن القطاع كله يبدأ بالتحرك في اتجاه أكثر نضجًا واحترافية، متوائمًا مع الرؤية الوطنية الطموحة التي تسعى إلى بناء مدن حديثة، وبيئة عمرانية عادلة، واقتصاد عقاري مستدام.
ولهذا، فإن المستقبل العقاري في المملكة بحاجة ماسّة إلى قيادات تؤمن بأن العدالة التنظيمية ليست ترفًا إداريًا، بل ضرورة استراتيجية. بحاجة إلى مؤسسات لا ترى في الموظف مجرد رقم في الهيكل، بل شريكًا في القرار، وصانعًا في النجاح. وبحاجة أيضًا إلى استثمار واعٍ في بناء ثقافة تنظيمية تضع الشفافية والمساءلة في صميم عملياتها اليومية.
في الختام، يمكن القول إن العلاقة بين الإدارة الاستراتيجية والعدالة التنظيمية ليست خيارًا يمكن الأخذ به أو تركه، بل هي معادلة النجاح الحقيقي في عالم الأعمال الحديث. في ظل تسارع المشاريع العقارية الكبرى، وتنوع التحديات التنظيمية، يصبح هذا التكامل أحد مفاتيح الريادة. وإذا أردنا فعلاً أن نحقق بيئة عمرانية عادلة ومستدامة، فعلينا أن نبدأ من الداخل: من بناء مؤسسات تُحسن التخطيط، وتُتقن المعاملة.