"معيوفة" حين لا يعود الغد
لانا ارناؤوط
21-08-2025 02:20 PM
تنهض معيوفة قبل الفجر، تُصلح من زاوية الضوء ما يكفي لتلمع به الذاكرة، وتُعدّ شايها بخفة يدٍ حفظتْ مقدار السكر مثل ما حفظت الطريق إلى موقف الباص. تركب المركبة العمومية ساعةً ونصفًا ذهابًا، وساعةً ونصفًا إيابًا، وتكتم تعب الركبتين بابتسامةٍ بدويةٍ تسبقها دعوةٌ طيبة لنا جميعًا. تعمل عاملة تنظيفات براتبٍ هو مائة دينار، لا ينهض بأسرةٍ ولا يُسعف مريضًا، لكنه كان يسند اليوم إلى الغد، ويجعل الجمعيّةَ الشهرية ممكنة، والدواءَ متاحًا، والخبزَ حاضرًا على الطاولة.
تستقبل الزميلاتُ صباحها كمن يستقبل بركةً تمشي على قدمين. تُلقي السلام، تلمُّ شعث الممرات، وتُعيد للأشياء ترتيبَها كما لو تُعيد للعالم معناه البسيط: أن يكون نظيفًا، قابلًا للعيش، محتملًا. تُخفي الحرج حين تُحاسِبها الجمعية على قسطها، وتُخفي وجعًا أكبر حين يتهدج صوت ابنها المريض في الهاتف يسأل عن الدواء. وتواصل، لأن مواصلةَ العيش صارت مهنةً إضافية.
تفاجئها الشركة بقرارٍ جافّ: «إنهاء عقود كبار السن». تسقط الورقة على الطاولة كحجرٍ في بئر، وتغور الأصوات. يتبدّد الراتب الضئيل الذي كان يقيم الأود بالكاد، وتبقى الأقساط، وتبقى صيدليةٌ تحفظ اسمها، وبائعٌ على ناصية الحي يعرف مواعيدها. تُحاول أن تُقنع القرار بأن للعمر حقًّا على المجتمع، وبأن الخبرة لا تُحال إلى التقاعد من القلب، لكن القرارات لا تُصغي. وتعود إلى البيت بالمركبة نفسها، بالمسافة نفسها، وبصمتٍ أثقل.
تتذكر زميلاتُها أمَّ عمر: كانت «بركة الصباح»، وكانت تُجمّل اليوم بمرحبًا بدويةٍ تخرج من قلبٍ طيب. لم نقُل لها وداعًا، ولم نقُل «إلى اللقاء»، لأن الغد كان قريبًا بما يكفي لنكتفي بالابتسام. يأتي الغدُ فلا تأتي، وتتعلم المؤسسةُ – متأخرةً – أن الناس ليسوا «أرقامَ دوام»، وأن من يمسح الغبار عن الرفوف كان يمسح عنه أيضًا عن قلوبنا.
تفضح الحكايةُ هشاشةَ معيارٍ يقيس الناس بقدرتهم الفعلية على حمل الدلو والمكنسة، ولا يقيس ما يحملونه من كرامةٍ وخبرةٍ وأثرٍ طيب. تُشيح السياساتُ وجهها عن سؤالٍ بديهي: كيف يُترَكُ إنسانٌ على أعتاب السبعين بلا أمانٍ أساسي، وبلا شبكةٍ تحمي «غدَه» من السقوط؟ تُعيد الحكايةُ تذكيرنا بأن الاقتصاد، حين يُفرغ من الأخلاق، يُصبح مجرّد آلةٍ تُقصي الأضعف وتُكلّف المجتمع أكلافًا أفدح من أي راتب.
تُعلّمنا أمُّ عمر ما ينبغي فعله، بما كانت. تقتضي العدالةُ أن نمنع التمييز العمري في سوق العمل، وأن نُتيح ترتيباتٍ مرحليةً لائقة: ساعاتٌ أقل مع أجرٍ يحفظ الكرامة، مهامُّ أخف تُبقي الخبرةَ في المكان بدل رميها خارجه، ومساراتُ انتقالٍ من العمل البدني إلى أدوار الإشراف والنصح. يقتضي الإنصافُ أن تُسجَّل العاملاتُ والعاملون مثلها في مظلةٍ حقيقية للضمان الاجتماعي، وأن يُنشأ صندوقٌ للطوارئ يُسعف من انقطع دخله قسرًا، وأن تُنظَّم «الجمعيّات» الأهليّة بقواعد تخفف وقع الانقطاع، فلا تتحول الألفةُ الاقتصادية إلى قيدٍ جديد.
يعني الإنصافُ أيضًا أن نُعيد تعريف الإنتاجية: تُقاس الأيادي بما تحمل من أثرٍ في نفوس من حولها. تُدهشنا أمُّ عمر لأنها جعلت الممرّات لائقةً بنا، وجعلتنا – من دون أن تدري – لائقين بأنفسنا. تُعلّمنا أن العمل عهدٌ متبادل: نُنجز ما علينا، ويُنجز المجتمع ما عليه من حمايةٍ واعتراف.
تستحق معيوفة أن يعود الغدُ إليها، ولو بصورةٍ مختلفة. تستحق رسالةَ هاتفٍ تُخبرها بأن المؤسسة رتّبتْ لها دورًا يُناسب عمرها، وأن الجمعية مدّت أجل القسط بلا غرامة، وأن الصيدلية وافقتها على ترتيبٍ كريم. تستحق أن تسمع كلمةً لا تقلّ عن «شكرًا» في وزنها، وتزيد: «لن نتركك».
تخاطبنا القصةُ فردًا فردًا: أصلِحْ لغتك حين تتحدث عن «الكِبار»؛ لا تجعل السنَّ تهمةً ولا الخبرةَ عبئًا. أصلِحْ مؤسستك؛ لا تُحمّل السوقَ كلَّ الذنب، فالسوقُ يتربّى على القواعد التي نضع. أصلِحْ دولتَك؛ لا تُؤجّل تشريعاتٍ تُحصّن شبيهاتِ أمِّ عمر، فالأثرُ الاجتماعيّ لأمنها أبلغُ من أيّ بندٍ في جدول حساب.
يحدث أن لا يعود الغد كما نحبّ. ويحدث أن نُعيده بفكرةٍ عادلةٍ وقلبٍ سخيّ. يحدث أن نكتب عن أمِّ عمر، فنظن أننا نُواسيها، فإذا بنا نُداوي فينا ما أهملناه من معنى الكرامة. يحدث أيضًا أن نلتفت في صباحٍ قادم فلا نجد البركة على الباب، فنُقسم – هذه المرّة – أن نردّها بحقٍّ لا بصدفة.
اعذريني يا ام عمر لقد وعدتك بان أتكلم ولكن صوتي كان خافقنا لن يتعدى مقال في صحيفة