تُعدّ النسوية من أبرز الحركات الفكرية والاجتماعية التي سعت عبر التاريخ إلى إنصاف المرأة ومنحها المكانة العادلة التي تستحقها، سواء في الحقوق المدنية أو في المجال العملي والسياسي. انطلقت الموجات الأولى للنسوية في أوروبا وأمريكا خلال القرن التاسع عشر، حيث ارتبطت بالمطالبة بالتصويت والحق في التعليم والمساواة أمام القانون.
هذه الجهود شكّلت حجر الأساس لتحولات كبيرة في مكانة المرأة عالميًا، إذ لم تعد مجرد تابع للأسرة أو الرجل، بل صارت شريكًا فاعلًا في بناء المجتمع.
غير أنّ مفهوم النسوية في بعض السياقات عانى من ظاهرة يمكن تسميتها بـ"الانتقاء"، أي أخذ جزء من الفكرة الأصلية وإغفال توازنها. فالنسوية في جوهرها تسعى إلى العدالة، لكن عندما تتحول إلى خطاب قائم على مواجهة الرجل أو تجاهل دوره، فإنها تفقد توازنها وتتحول من حركة لإنصاف الحقوق إلى وسيلة لخلق فجوة جديدة. العدالة الحقيقية تعني أن تتحمل المرأة والرجل معًا مسؤوليات متوازنة، خصوصًا حين يعمل الطرفان ويشتركان في أعباء الحياة، فلا يصح أن يكون نيل الحقوق ذريعة لإهمال الواجبات.
أما في العالم العربي، فقد دخلت النسوية في إطار مختلف، متأثرة بالتراث الثقافي والديني من جهة، وبالتيارات الفكرية الغربية من جهة أخرى. منذ بدايات القرن العشرين، مع أسماء مثل هدى شعراوي ونبوية موسى، بدأت الدعوات لتحرير المرأة من قيود التعليم المحدود والزواج القسري. وفي العقود الأخيرة، برزت حركات نسوية عربية تسعى لتمكين المرأة سياسيًا واقتصاديًا، لكنها تواجه تحديات كبرى: من جهة رفض اجتماعي ينظر إلى النسوية كفكر دخيل، ومن جهة أخرى نزعات متطرفة داخل بعض الخطابات النسوية نفسها تؤدي إلى تقطيع الافكار و التركيز على الصراع بدل الشراكة.
إن جوهر النسوية الحقيقي هو الموازنة بين الحق والواجب، بحيث تصبح وسيلة لخلق مجتمع عادل يتشارك فيه الرجل والمرأة على حد سواء في بناء الأسرة والاقتصاد والثقافة.
النسوية يجب ألا تكون مشروعًا لإقصاء الرجل، بل لإقامة معادلة جديدة قائمة على الاحترام والتكامل، بعيدًا عن الانتقاء الذي يفرغ الفكرة من مضمونها الإنساني.
من المنطلق المنطقي والعقلاني، تبدو النسوية ضرورة إنسانية قبل أن تكون مواجهة صدامية. فالمجتمع لا يمكن أن يتطور إذا ظل نصفه مهمشًا أو مُقيّدًا بأدوار ضيقة.
المطالبة بتمكين المرأة ليست خصمًا من رصيد الرجل، بل هي إضافة لرصيد المجتمع بأسره. عندما تحصل المرأة على حقها في التعليم والعمل والحماية القانونية، فإن ذلك يعني زيادة في الإنتاجية، وتوسيعًا لدائرة الإبداع، وتعزيزًا لشبكة العلاقات الاجتماعية المتوازنة. المنطق يفرض أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست ساحة معركة، بل شراكة تكاملية، حيث يكتمل دور كل طرف بالآخر، وحينها فقط تحقق النسوية غايتها الحقيقية: العدالة لا الصراع.