facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




خنجر إسرائيل: وثيقة قديمة وصراع يتجدد


أ. د. هاني الضمور
24-08-2025 10:42 AM

منذ أكثر من ستة عقود، أصدر الصحفي الهندي ر. ك. كارانجيا كتابه الشهير خنجر إسرائيل، الذي تضمن حواراً صريحاً مع وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك موشيه ديان. لم يكن الكتاب مجرد تحليل سياسي عابر، بل وثيقة تكشف بوضوح عن عقل استراتيجي يخطط بعيداً عن حدود اللحظة، ويعيد تشكيل المنطقة العربية بما يضمن التفوق الإسرائيلي على المدى الطويل. في ذلك الحوار كشف ديان عن خطط لتقسيم الدول العربية إلى كيانات صغيرة على أسس طائفية وعرقية، معتبراً أن هذه التفتيتات هي السلاح الأكثر فاعلية لإضعاف العرب وتحييدهم. حينها قال عبارته المستفزة: “لا تخف، فالعرب لا يقرأون”، في إشارة إلى أن المخططات يمكن أن تُعلن دون أن تجد من يواجهها بوعي أو فعل.

أهمية الكتاب لا تنبع فقط من جرأته في كشف نوايا إسرائيل، بل من كونه مرآة نستطيع أن نرى من خلالها واقعنا اليوم. فما جرى في العراق بعد عام 2003 من تفكك داخلي وصراعات طائفية أعاد إلى الواجهة فكرة تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق رئيسية، تماماً كما ورد في “خنجر إسرائيل”. وما شهدته سوريا منذ 2011 من صراع دموي متعدد الأطراف لم يكن بعيداً عن المخطط الذي تحدث عنه ديان، حيث يصبح البلد غارقاً في نزاعات تستنزف طاقته وتُضعف قدرته على مواجهة التحديات الخارجية. أما لبنان، فالأزمات الطائفية والسياسية التي تعصف به منذ عقود تجعله نموذجاً حياً لفكرة التفتيت التي تسعى إسرائيل لترسيخها في محيطها الإقليمي.

لكن الوجه الأكثر وضوحاً لهذه الاستراتيجية يظهر في فلسطين نفسها. فالاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بالسيطرة العسكرية، بل يعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا بما يخدم مشروعه طويل المدى. الاستيطان في الضفة الغربية، ومحاولات عزل القدس عن محيطها العربي، والسعي لتكريس واقع سياسي يمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة، كلها أدوات تنسجم تماماً مع الرؤية التي وضعها ديان قبل عقود. غير أن غزة، تحديداً، تمثل اليوم الساحة الأوضح التي تكشف استمرار منطق “خنجر إسرائيل”. فالحصار المستمر منذ ما يزيد على 17 عاماً لم يكن مجرد سياسة أمنية، بل محاولة ممنهجة لإضعاف المجتمع الفلسطيني، عزله عن العالم، وتحويله إلى ساحة مستنزفة. والحروب المتكررة على القطاع، بما فيها العدوان الأخير الذي خلف آلاف الشهداء والجرحى ودمّر البنية التحتية بشكل واسع، ليست سوى تجسيد لفكرة أن السيطرة على المنطقة تمر عبر إضعاف خصومها حتى لو كان الثمن كارثة إنسانية.

ما يميز الاستراتيجية الإسرائيلية هو أنها تتحرك على أكثر من مستوى في الوقت نفسه. فبينما تواصل إسرائيل فرض وقائع جديدة على الأرض في غزة والضفة، فإنها في الوقت ذاته تستفيد من الانقسامات العربية لتوسيع دائرة التطبيع الرسمي مع بعض الدول. هذه السياسة تضمن لها، وفق رؤيتها، أن العرب لن يكونوا جبهة موحدة في مواجهة مشروعها، بل ساحة مفتتة يسهل إدارتها. وهذا بدوره يعيدنا إلى الدرس المركزي من كتاب “خنجر إسرائيل”: أن السيطرة لا تأتي فقط بالقوة العسكرية المباشرة، وإنما عبر إدارة الخلافات الداخلية وصناعة واقع يكرّس الانقسام.

إن استدعاء هذا الكتاب اليوم ليس ترفاً فكرياً أو قراءة في التاريخ من باب التذكير، بل هو ضرورة استراتيجية لفهم ما يجري. فالمخططات التي اعتبرها البعض في الماضي ضرباً من المبالغة أو نظرية مؤامرة، باتت اليوم واقعاً ملموساً. العراق وسوريا ولبنان أمثلة حيّة على التفتيت، وغزة مثال صارخ على سياسة الإضعاف الممنهج، فيما القدس والضفة تعيشان تحت ضغط استيطاني لا يتوقف. كل ذلك يثبت أن المشروع الإسرائيلي لم يكن وليد اللحظة، وإنما خطة طويلة المدى تجد في كل فرصة تاريخية وسياق إقليمي مضطرب مجالاً للتنفيذ.

ومع ذلك، لا يمكن التعامل مع هذه الحقائق بوصفها قدراً محتوماً. فالتاريخ يثبت أن المشاريع الكبرى، مهما كانت محكمة، يمكن أن تواجه عقبات إذا ما وُجد وعي استراتيجي ورؤية موحدة لمواجهتها. من هنا، يصبح الدرس الأهم من كتاب “خنجر إسرائيل” هو ضرورة استعادة الوعي العربي. لم تعد القضية مجرد صراع عسكري، بل هي معركة على الوعي والقدرة على قراءة المستقبل. وإذا كان ديان قد راهن على أن العرب لا يقرأون، فإن الرد الاستراتيجي الحقيقي يبدأ بالقراءة والفهم، ثم بالانتقال إلى بناء مشروع سياسي وأمني واقتصادي قادر على مواجهة المخطط الإسرائيلي.

خنجر إسرائيل إذاً ليس كتاباً نقرأه لنعود إلى الماضي، بل وثيقة نستلهم منها وعياً جديداً للحاضر والمستقبل. وهو يذكرنا بأن الخطر لم يكن يوماً في حدود إسرائيل العسكرية فقط، بل في قدرتها على استغلال انقساماتنا وإدارة خلافاتنا الداخلية بما يخدم مشروعها. وما يجري في غزة اليوم من حرب إبادة وصمود في آن واحد، يكشف أن الصراع لم ينته، وأن المعركة بين مشروع تفتيت ومشروع مقاومة ما تزال مفتوحة. الخيار أمام العرب واضح: إما أن يبقوا أسرى لخنجر يغرس منذ عقود في جسدهم، أو أن يستعيدوا قدرتهم على نزع الخنجر وبناء واقع جديد يقوم على الوحدة والوعي والسيادة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :