الخليج والبداوة .. عندما تصبح الصحراء تهمة
فيصل سلايطة
24-08-2025 01:11 PM
يُحاول البعض تصوير البداوة وكأنها نقطة ضعف، مادة جاهزة للمعايرة والتقليل من شأن شعوب الجزيرة العربية. وكأن حياة الصحراء، بما فيها من صعوبة العيش وقسوة الطبيعة، كانت عاراً أو نقصاً. والحقيقة أن البداوة ليست سوى شكل أصيل من أشكال الحياة، لها قيمها وثقافتها وأنماطها الخاصة في النجاة والتكيف، تماما كحياة الريف والبحر.
الحضارات جميعها وُلدت من رحم صعوبات مشابهة، من بين أنقاض، أو من بين أنهار فيضانات، أو من فوق جبال وعرة. فلماذا تصبح الصحراء تهمة، بينما هي في جوهرها ميدان ولادة للصلابة والتحمل؟
حين ننظر اليوم إلى دبي، الرياض، أبوظبي، والكويت، فإننا نرى مدناً متطورة أصبحت محاور اقتصادية وسياحية عالمية. لم تُبْنَ هذه المدن صدفة، بل قامت على رؤية، وتخطيط، واستثمار في الموارد التي أتاحها النفط والغاز. لم تكتفِ بالخيام والرمال، بل حولت الصحراء إلى أبراج، وطرقات، وموانئ، ومطارات، وأنظمة تعليم وصحة، ومراكز تكنولوجية.
ورغم ذلك، عند كل إنجاز أو اكتشاف في الخليج، هناك من يسارع إلى اتهام هذه المجتمعات بسرقة التاريخ أو المال أو الإنجاز. وكأن البناء يبدأ من فراغ مطلق، بينما الحقيقة أن كل مشروع حضاري يبدأ من نقطة الصفر. فمن يدري؟ قد تكون تحت رمال الخليج حضارات لم تُكتشف بعد، كما اكتُشفت حضارات كبرى تحت رمال مصر والعراق وبلاد الشام.
لا شك أن الخليج له فضل على بقية الأقطار العربية، بقدر ما للشام ومصر والعراق فضل عليه. آلاف الأطباء والمعلمين والمهندسين العرب – خصوصاً من بلاد الشام – ساهموا في نهضة الخليج في التعليم، الصحة، تخطيط المدن، وتنظيم المؤسسات. وفي المقابل، وفّر الخليج فرص العمل والرزق والحماية لملايين من هؤلاء. المنفعة هنا متبادلة، والتاريخ يُكتب دوماً بصيغة المشاركة، لا بصيغة التملك.
صحيح أن المال عنصر أساسي في التنمية، لكن ليس وحده كافياً. فكم من دول غنية انهارت وفشلت بسبب غياب الرؤية والإدارة الرشيدة، وكم من دول فقيرة استطاعت أن تحقق نجاحات لأنها استثمرت في الإنسان والفكر. الخليج نموذج على أن المال حين يُقترن بالتخطيط والإدارة يمكن أن يتحول إلى عمران وإنجاز. لكن ينبغي ألا ننسى أن المال ليس عصا سحرية؛ بل هو أداة تحتاج إلى عقل وفكر كي تُستثمر.
بدلاً من التقليل والسخرية، يجب أن يفتخر العرب بوجود مدن متطورة على أرضهم، في الخليج أو في غيره. أن تكون لدينا عواصم عربية تقف في مصاف كبرى مدن العالم، هو مكسب قومي لا ينتقص من أحد. فالعالم لا يعترف إلا بالمنجزات، والحديث عن الماضي وحده لا يكفي لبناء مكانة.
"عقدة الخليج" ليست عقدة في الحقيقة، بل انعكاس لنظرة غير متوازنة من البعض. النظرة الصحيحة هي أن نرى الخليج جزءاً من الجسد العربي الكبير: له أفضاله وله احتياجاته، وله مساهماته وله تحدياته. البداوة ليست سُبة، الصحراء ليست فراغاً، والمدن ليست مجرد واجهات، هي تجربة عربية حديثة جديرة بالدرس والفخر، وعلينا أن ننظر إليها بوصفها رصيداً للعرب جميعاً....لا أن نحاول الهدم بسبب أوهام...سياسية أو توسّعية.