صدور كتاب "قوة المعنى في عالم متغير" تأليف إبراهيم غرايبة
25-08-2025 06:36 PM
عمون - صدر للباحث إبراهيم غرايبة عن دار سنديانة للنشر كتاب "قوة المعنى في عالم متغير؛ من الدولة المركزية إلى المجال العمومي" ويتكون الكتاب من تسعة فصول (473 صفحة) مقسمة إلى المصادر الأساسية التي يتشكل منها المعنى؛ وهي العدل والحرية والجمال، ثم محاولة تقديم فهم معرفي شامل للمعنى باعتبار أنه طاقة روحية واجتماعية، وبما أن الدين يعتبر المحفز الرئيسي والأكثر أهمية للمعنى فقد أفردته بمساحة واسعة من الفهم والدراسة. بالطبع هناك محفزات أخرى كثرة مهمة للمعنى؛ منها الضمير الفردي والجمعي للأفراد والأمم، والأيديولوجيات القومية والسياسية والروحية. وتأثير الانترنت أو التكنولوجيا الما بعد حديثة على المعنى، وروح الطبيعة: التأثير الممكن للمعنى في مجال البيئة والتغير المناخي، والعقلانية الاجتماعية والروحية، وإمكانية تنظيم روحي اجتماعي لا يتناقض مع الدين ويتفق مع الاتجاهات المعاصرة. وأخيرا يحاول المؤلف كما يقول اقتراح خطاب روحي جديد وفق معطيات التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي صاحبت اقتصاد المعرفة إضافة إلى الأزمات الروحية والاجتماعية التي تعصف بالعالم.
يهدف هذا الكتاب إلى فهم دور الأفكار والمعتقدات وتأثيرها في المجال العمومي بعدما كانت مكونا رئيسيا في رسالة الدولة المركزية الحديثة التي تستند ببساطة إلى القوة والثروة والمعنى، ويحاول أن يقدم اقتراحات ومراجعات لتكون الأفكار في سياق الإصلاح والتقدم. ذلك أنها لا تعمل تلقائيا في هذا الاتجاه.
يقول المؤلف إن "المعنى" يشكل جوهر الوجود والحياة وكل شيء، فما لا معنى له لا قيمة له. وليس المقصود بـ "المعنى" في هذا الكتاب الدلالة اللغوية أو التعبيرية أو التصويرية. لكن المعنى بما هو جوهر الوجود والأشياء والأفعال والأفكار.
اتخذ مصطلح "المعنى" مفاهيم معاصرة إضافة الى المفاهيم التي تشكلت عبر التاريخ، وشأنه شأن معان كبرى أخرى مثل العدل والحرية والجمال فقد كرس في سياقات الحضارة المعاصرة والتي شهدت انعطافة كبرى منذ ما سمي "عصر الصناعة" ثم إنها اليوم تشهد انعطافة كبرى تكاد تغير كل شيء في الموارد والأعمال والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للأمم، وبطبيعة الحال الفلسفات والأفكار والمعاني والقيم المؤسسة لعالم جديد يتشكل.
بالطبع فإن المعنى بما هو المقصود بالكلام (لسان العرب) هو أكثر المفاهيم بداهة وتداولا. لكن المعاجم والمراجع المعاصرة بدأت تشير إلى المعنى بما هو التمثيل العقلي المجرد والحدسي وما يدرك بالعقل لا الحواس. يقول القديس أوغسطين (345 – 450 م) الكلمات لا تُنتج المعنى بل تشير إليه، والمعنى يسكن في الذهن، ويعلّمه "المعلم الداخلي" (العقل أو الله). فالمعنى في أصله روحي أو عقلي، لا لغوي. ويقول توما الاكويني (1225 – 1274) المعنى منطوٍ في النفس، ويتحقق من خلال الألفاظ لكن لا يُختزل فيها (الخلاصة اللاهوتية) ويراه ديكارت (تأملات في الفلسفة الأولى) لأفكار الواضحة والمتميزة باعتبارها المعاني الحقيقية. ويعرفه ايمانوي كان" (نقد العقل المحض) ما ينتج من تنظيم العقل للظواهر عبر مقولات عقلية. نتاج البناء العقلي للتجربة. وقد يكون الأقرب لما يريده ويسعى اليه هذا الكتاب هو تعريف هيغل (فينومينولوجيا الروح) "تجلّي الروح من خلال الأشكال، فـ "المعنوي" هو مظهر الروح والعقلانية العليا.
ينتمي مفهوم "المعنى" في الفلسفة الإسلامية إلى عصر ما قبل الصناعة، فقد توقفت منذ عدة قرون، ثم بعثت في العقود الأخيرة في سياق الفلسفة الغربية، فهي وإن كانت باللغة العربية فإنها تنتمي إلى الفلسفة الأوروبية التي تشكلت في القرون الأخيرة. لكن الإشارات الإسلامية للمعنى تحمل كثيرا من المعاصرة، ومازالت تصلح للفهم والاسترجاع.
يرى الكندي؛ يعقوب بن أسحق الكندي (ت 873م) ان المعنى يرتبط بـ الماهية أو الحقيقة الثابتة للأشياء، فهو ليس فقط دلالة لفظية، بل مضمون عقلي مجرد. ويميز ابن سينا (ت 1037) بين المعنى بوصفه ماهية (ما يُجاب به عن ما هو الشيء؟) والمعنى بوصفه دلالة لغوية أو رمزية. (الشفاء) ومن معاني "المعنى" عند إخوان الصفا الروح والحقيقة.
"اللفظ جسد والمعنى روح" فهو الروح الباطنة للأشياء والنصوص، وهو غاية العارف والسالك. (رسائل إخوان الصفا)
ويقدم أقطاب التصوف الإسلامي استبصارات واستدلالات ذات شأن، فيقول ابن عربي (ت 1240م) "المعنى" هو وجه الحق في الأشياء. ويقول: "كل صورة تحوي معنًى إلهيًا"، و"المعاني هي أسماء الله في الأشياء".(فصوص الحكم)ويراه الفيلسوف المتصوف شهاب الدين السهروردي (ت 1191م) الجوهر النوراني الذي تنبثق عنه الموجودات. ويقول جلال الدين الرومي (ت 1208م) "كل لفظ غلاف، أما المعنى فهو الروح. ابحث عن المعنى كما تبحث الروح عن أصلها". (المثنوي)
يكشف تحليل مفهوم "المعنى" في المرجعيات السوسيولوجية، الأنثروبولوجية، السيميولوجية، والعلوم الطبيعية عن تحول حاسم في فهم المعنى من كونه تمثيلًا عقليًا أو تجليًا روحيًا (كما في الفلسفة) إلى كونه نتاجًا للعلاقات الاجتماعية والثقافية والرمزية والطبيعية، أي أن المعنى لم يعد يُفهم فقط بوصفه موجودًا في العقل أو الجوهر، بل كـ بنية وظيفية، أو عملية تشكّل، أو نظام تداولي.
في السوسيولوجيا، المعنى لا يُنظر إليه بوصفه كيانًا فرديًا، بل بنية اجتماعية ناشئة عن العلاقات والرموز والقيم المشتركة.
يعرف ماكس فيبر المعنى بأنه ما يضفيه الأفراد على أفعالهم ضمن سياق الفهم المتبادل. ويراه إميل دوركايم "وظيفة اجتماعية لإنتاج التماسك" ويقول هربرت بلومر المعاني تنشأ من التفاعل "الناس يتصرفون تجاه الأشياء وفق المعاني التي تسندها لها الجماعة". وأما كليفورد غيرتز فإنه يرى المعنى لا يوجد خارج الرموز الثقافية؛ مثل الأساطير واللغة والرموز، فالثقافة "شبكة من المعاني التي ينسجها الإنسان حول نفسه". فالمعنى بمنظور أنثروبولوجي هو منتج ثقافي يُفسَّر لا يُكتشف، ويُفهم فقط داخل منظومته. ويقول ليفي شتراوش (البنيوية والأسطورة) المعنى هو بنية عقلية ثقافية رمزية تُعبر عن التنظيم اللاواعي للمجتمع. ويقول فرديناند دي سوسير: المعنى ليس طبيعيا، بل عرفي توليدي نسبي، ويقول رولان بارت إن المعنى تنتجه السلطة والخطاب.
خلاصة القول في "المعنى" أنه نتاج نسقي، وظيفي، متغير، ونسبي، قد لا نجد دليلا علميا كافيا عليه، لكننا نعيشة ونختبره في حياتنا اليومية والعامة. ويستحق لأجل ذلك كما يقول وليم جيمس أن نفكر فيه.
لقد ساعدت "الرقمنة" على إدراك معنى الوجود الأصلي أو كما هو مستقلا عن المكان والزمان؛ ليس الزمان بمعنى حركة الأرض حول الشمس وحركتها حول نفسها، ولكن معناه الأصلي (الحركة أو الفعل أو الوجود أو حتى العدم) الحال ان علاقتنا بالمكان وما سميناه الزمان هي علاقة غير حقيقية أو هي غير موجودة اصلا. وفي ذلك فإن المعتقدات والأفعال ويشمل ذلك العبادات والطقوس والرموز يعاد تعريفها ممارستها نسبة إلى الوجود وليس ما نحسبه المكان او الزمان. الحال أن المكان والزمان والوجود متصلة بالكون والضوء بما هو فوتونات ونعرفه أو نستدل عليه ونتحرك فيه بالنور والظلام، أو اون لاين واوف، لاين، أو واحد وصفر. ما نحن سوى آحاد واصفار. لا مكان سوى الكون، وما وجودنا وفهمنا للزمن سوى حركتنا في الكون وحركة الكون فينا وفي ذاته. لامعني للحياة والمعنى نفسه سوى الكون الذي لا معنى فيه ولا وجود للأرض والانسان سوى الكون نفسه. ليس لدينا سوى أن نعيش الحياة بشجاعة.