المتسول الأنيق: بين خطاب الضحية ووعي العالم
أ. د. هاني الضمور
27-08-2025 02:16 PM
من يتأمل الخطاب الإسرائيلي في العقود الأخيرة يكتشف بوضوح كيف جرى تحويل مفهوم “معاداة السامية” من توصيف دقيق لاضطهاد اليهود عبر التاريخ إلى سلاح سياسي يُشهر في وجه كل ناقد لسياسات الاحتلال والتوسع. إنها ليست مجرد آلية دفاعية، بل استراتيجية كاملة لتثبيت الشرعية وكسب التعاطف الدولي. وهنا تتجلى الصورة الرمزية التي شبّهناها بـ”المتسول الأنيق في ملابسه”: هيئة خارجية مكسوّة بالمعاناة والشرعية الأخلاقية، بينما الجوهر قائم على استثمار الألم لأهداف وضعية دنيوية.
اليهودية في جذورها ديانة روحية تحمل قيمًا أخلاقية وتوجه الإنسان نحو معنى للحياة، لكنها عبر مسار التاريخ الطويل من الاضطهاد تحولت تدريجيًا إلى هوية جماعية مغلقة، مزيج من الدين والقومية والانفصال عن المحيط. ومع ظهور الحركة الاسرائيلية في أوروبا القرن التاسع عشر، وقع التحول الأعمق: لم يعد الهدف خلاصًا روحانيًا، بل تأسيس دولة قومية تستمد مشروعيتها من القوة والبراغماتية. عند هذه النقطة أصبح الدين غطاءً، بينما الجوهر دنيوي صرف، وأصبح استدعاء الذاكرة الجماعية للألم وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية، أشبه بمن يتسوّل باسم مأساته، لكنه يرتدي ثوبًا فخمًا ليخفي حقيقة سلوكه.
أخطر ما في هذه الاستراتيجية أنها تنتج خطابًا احتكاريًا، يحدد ما يجوز وما لا يجوز قوله. وفق تحليل فوكو، هذا ضرب من “الضبط المعرفي”، حيث يُمنع أي نقد سياسي من أن يُعبّر عنه بحرية، ويُعاد تعريفه مباشرة ككراهية عنصرية. بهذا الشكل يصبح التفريق بين اليهودية كدين والاسرائيلية كمشروع سياسي شبه مستحيل في الوعي العام، ويتحوّل كل ناقد إلى “عدو لليهود” بمجرد أن يتحدث عن ظلم الاحتلال. إنها وضعيّة سياسية متقنة في استغلال رأس المال الرمزي لمعاناة تاريخية وتحويلها إلى عملة تفاوضية في العلاقات الدولية.
غير أنّ هذه اللعبة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. العالم، حتى لو انخدع بالمظهر الأنيق للمتسول، يبدأ عاجلًا أم آجلًا بملاحظة التناقض بين الخطاب والممارسة. هنا يظهر دور الوعي، وهو ليس وعيًا يُفرض من فوق، بل يُبنى من خلال تفكيك المفاهيم، وصناعة خطاب بديل، وكشف الاستغلال الرمزي بلغة علمية محايدة، وطرح القصص الإنسانية التي تكسر احتكار الضحية. فالتفريق بين الدين والسياسة خطوة أولى أساسية، لأنها تكشف أن انتقاد مشروع سياسي لا يعني المساس بجماعة دينية.
لكن الوعي لا يقوم على التحليل وحده. فالعالم يتأثر بالصور أكثر مما يتأثر بالنصوص. حين تُروى معاناة الفلسطيني لا كأرقام في تقرير دولي، بل كقصة طفل يحيا تحت الحصار أو أم تفقد أبناءها، تصبح صورة “الضحية الأبدية” التي تحتكرها إسرائيل أقل إقناعًا. هنا تتعرى لعبة المتسول الأنيق: من يدّعي الفقر الأخلاقي وهو في الحقيقة يمتلك قوة عسكرية هائلة، ومن يطالب بالتعاطف بينما يمارس على الأرض سياسات قمعية صارخة.
العلم بدوره يقدم أدوات قوية لتفكيك هذا الخطاب. فبورديو يفسر كيف يتحول رأس المال الرمزي إلى سلطة ملموسة، بينما علم النفس الاجتماعي يوضح كيف تميل الجماعات التي تكرّس صورتها كضحايا إلى ممارسة الاضطهاد حين تكتسب القوة. هذه القراءات تفضح النفاق الاستراتيجي القائم بين الخطاب الإنساني والممارسة الاستعمارية. وما يزيد الصورة وضوحًا هو التحالف بين ضحايا أشكال أخرى من الاضطهاد، أو أصوات يهودية مناهضة للاسرائيلية، تكسر احتكار إسرائيل لدور “الضحية الوحيدة”.
الإعلام بدوره ساحة حاسمة. صحيح أن المنابر التقليدية ما زالت متأثرة باللوبيات، لكن الفضاء الرقمي يتيح فرصًا أكبر لخطاب بديل. في هذا الفضاء يمكن أن يسقط القناع ليس عبر مقالات مطولة، بل عبر مقطع قصير أو شهادة صادقة تصل إلى ملايين الناس. هنا بالضبط يُعاد بناء الوعي: حين يمتزج التحليل العميق بالقصة الإنسانية والوسيلة الإعلامية المؤثرة.
في النهاية، المعركة ليست ضد دين أو جماعة بشرية، بل ضد استغلال سياسي يستثمر معاناة قديمة ليبرّر ظلمًا حاضرًا. المتسول الأنيق قد يربح التعاطف حين يطل بملابسه الفاخرة، لكن حين يتكشف تناقضه بين القول والفعل، لا يبقى أمام العالم سوى أن يرى الحقيقة كما هي: خطاب ضحية يُستعمل ستارًا لجلاد. والسؤال المطروح أمام الضمير الإنساني: هل سنظل نُخدع بالبريق الخارجي، أم أن الوعي العالمي سيملك الشجاعة لنزع القناع وكشف الوجه الحقيقي؟