التعليم بين التلقين والشخصية
فيصل سلايطة
30-08-2025 10:39 AM
في كثير من المجتمعات، يُنظر إلى التعليم بوصفه مفتاح النجاح، وأداة أساسية للارتقاء الاجتماعي والمهني. غير أنّ هذا التركيز على التحصيل الأكاديمي وحده قد يفرغ التعليم من معناه الأعمق، إذ يُختزل في مجرد حفظ المعلومات واجتياز الامتحانات، دون النظر إلى الأبعاد الإنسانية والنفسية التي تصنع شخصية متوازنة قادرة على التفاعل مع محيطها. هنا يبرز السؤال الجوهري: هل يكفي أن نربي أبناءنا على الحفظ والتلقين لنضمن لهم مستقبلاً ناجحاً، أم أن الشخصية الواعية المتزنة هي الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء؟
لقد أثبتت التجارب أن كثيراً من الشباب الذين حصلوا على شهادات عليا لم يتمكنوا من مواجهة تحديات الحياة اليومية. تجد الواحد منهم متفوقاً أكاديمياً، واسع الاطلاع، لكنه يعاني من هشاشة في شخصيته، ورهاب اجتماعي يمنعه من التعبير عن نفسه أو خوض التجارب الحياتية. هذه الفجوة بين المعرفة النظرية والقدرة على التفاعل العملي هي نتيجة مباشرة لنهج تربوي يركز على "التعليم" وينسى "التربية". فالبيت الذي لا يزرع الثقة بالنفس في قلب الطفل، ولا يعلمه مهارات التواصل، يخرّج إنساناً متعلماً على الورق فقط، لكنه ضعيف أمام المجتمع.
وعلى الضفة الأخرى، هناك عائلات تركز بشكل مفرط على بناء الشخصية، وتغفل جانب التعليم الأكاديمي. فينشأ الطفل جريئاً، قادراً على التعبير عن ذاته والتعامل مع الآخرين، لكنه يفتقر إلى الأسس العلمية والثقافية التي تمكنه من فهم العالم وتحقيق طموحاته. هذا النوع من الخلل يجعل الشخصية قوية ظاهرياً، لكنها محدودة الأفق، تفتقد العمق المعرفي الذي يفتح الأبواب أمام التطور المهني والفكري.
من هنا، يصبح واضحاً أن التربية والتعليم جناحان لا ينفصلان. التربية هي البذرة الأولى التي تغرس القيم، وتؤسس للثقة، وتمنح الطفل القدرة على التوازن النفسي والاجتماعي. والتعليم هو الماء الذي يغذي تلك البذرة، فيمنحها النمو العلمي والثقافي. لا قيمة لشهادة يحملها شخص يفتقد الجرأة على التعبير عن نفسه، كما لا تكفي الثقة بالنفس وحدها دون علم ومعرفة تنظمها وتوجهها.
إنّ بناء شخصية متوازنة يبدأ في البيت أولاً، حيث يتعلم الطفل من سلوك والديه أكثر مما يتعلم من كلماتهم. فإذا رأى الأب أو الأم يواجهان المجتمع بثبات واتزان، ويقرنان العلم بالأخلاق، اكتسب هو هذا النموذج عملياً. ثم يأتي دور المدرسة التي يجب ألا تقتصر على الكتب والامتحانات، بل أن تفتح مساحات للنقاش، وتشجع على الإبداع، وتمنح الطلاب فرصاً للتعبير عن ذواتهم.
التعليم الحقيقي لا يعني أن نحشو عقول الأطفال بالمعلومات فقط، بل أن نعلمهم كيف يفكرون، وكيف يتعاملون مع الآخرين، وكيف يميزون بين الصواب والخطأ. وهذا لا يتحقق إلا من خلال توازن دقيق بين المعرفة الأكاديمية والمهارات الاجتماعية. فالطالب الذي يعرف كيف يواجه الناس، ويتحدث بثقة، ويشارك في المجتمع، سيكون أقدر على استثمار علمه وتحويله إلى نجاح ملموس.
إن مسؤولية الأهل والمربين اليوم ليست سهلة. فهي تتطلب وعياً بأن التربية مقدمة على التعليم، لأن التربية تصنع الوعاء، والتعليم يملؤه. وإذا كان الوعاء هشاً، فلن يحتمل ما يوضع فيه. أما إذا كان متيناً، فإنه يستوعب العلم ويترجمه إلى وعي وفعل. ولذلك، فالمطلوب هو إعداد إنسان مثقف واعٍ، وفي الوقت ذاته متزن واثق من نفسه، يجمع بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، بين العقل والروح، وبين العلم والشخصية.
وبهذا الفهم، نرتقي من التعليم كعملية تلقين جامدة، إلى التعليم كمنظومة متكاملة تصنع الإنسان. إنسان لا يعيش بعلمه وحده، ولا بشخصيته وحدها، بل يوازن بين الاثنين ليصبح قادراً على مواجهة الحياة بثقة، والناس بوعي، والمستقبل بأمل.