الجامعة الأردنية… ثلاثة وستون عامًا من المجد والعطاء
زايد الزيود
02-09-2025 01:11 PM
على تراب عمّان، حيث يزهر الدحنون في الربيع، وتملأ المآذن الأفق بصوتها الندي، وحيث تختلط الأجراس بأصوات الطلبة وهم يحملون كتبهم وأحلامهم، وُلدت الحكاية. لم تكن حكاية مكان وحسب، بل حكاية وطن آمن أن العلم هو المداد الأصدق لكتابة اسمه، وأن المعرفة هي الثوب الأجمل لارتداء المجد. ومن هذه القناعة انبثقت الجامعة الأردنية، البذرة التي سرعان ما غدت شجرة باسقة، تظلل الأجيال، وتورق فكرًا، وتثمر نهضة.
في الخامس عشر من كانون الأول عام 1962 بزغ فجر جديد مع الإرادة الملكية السامية للمغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه. لم تكن البداية سوى خطوة متواضعة: كلية واحدة، مبنيان صغيران، وثمانية أساتذة فقط. لكن الإرادة كانت أكبر من كل عائق، والعزم أوسع من حدود الإمكانات. ومن رحم تلك البدايات خرجت الحكاية، كنبعٍ يتفجر من صخر، ليكتب أول السطور في سجل النهضة الأردنية الحديثة.
وسرعان ما نمت النواة الصغيرة وتوسعت. ارتفعت كلياتها كأغصان تتوزع في كل اتجاه: في العلوم الإنسانية، وفي ميادين الطب والهندسة، وفي مختبرات البحث والتجريب. غدت الجامعة بيتًا واسعًا يسكنه طلاب من الأردن وكل أصقاع الأرض، وحاضنةً للمراكز والمعاهد، ومنبرًا يخرّج الطبيب والمهندس والمعلم والمفكر. لم يعد الحرم الجامعي مجرد أبنية وحجر، بل صار فضاءً يضج بالحياة والأفكار، وملتقى للثقافات والتجارب. ومنذ ذلك الحين صار اسم الأردنية مرادفًا للشهادة التي تفتح أبواب القيادة والإبداع.
ومع تعاقب السنين، لم تكن الأردنية جامعةً فقط، بل وطنًا صغيرًا بحجم قارة، ذاكرةً حيّة تحفظ أسماء من مرّوا في قاعاتها، وقلوب من نهلوا من معينها. آلاف الخريجين حملوا راياتها إلى العالم، منهم من بنى مستشفى، ومن شيد مصنعًا، ومن صاغ فكرًا، ومن رفع اسم الأردن على منصات العلم والسياسة والثقافة.
وكما غرس الملك الباني الحسين بذرتها الأولى، واصل جلالة الملك عبدالله الثاني رعايتها، مؤمنًا أن التعليم العالي هو السبيل الأمثل لمستقبل أكثر إشراقًا، وأن الاستثمار في عقل الأردني أثمن من كل كنوز الأرض. فكانت الأردنية مرآةً لرؤية القائد، تتجدد مع كل جيل، وتغرس في طلبتها قيم الانتماء والحرية والإبداع.
ليست الجامعة الأردنية حكاية جدران وأبنية، بل حكاية أجيال توارثت الحلم جيلاً بعد جيل. هي قصة الأردن نفسه، الذي واجه قلة الموارد بوفرة العزيمة، وحوّل القلم والمختبر إلى قلاع تصون الهوية وتصوغ المستقبل. هنا، في قلب عمان، تفتحت العقول كما تتفتح الزهور على ضوء الفجر، وتعلمت الأيادي كيف تبني، والقلوب كيف تحب، والعقول كيف تحلم.
ولم يكن غريبًا أن يحتفي بها الشعراء، فقد كتب فيها حبيب الزيودي:
ما زادت الخمسون فيك سوى التجدد في شبابك
ومواكب العلماء تلمع كالزمرد في ثيابك
واليوم، بعد ثلاثة وستين عامًا، تظل الأردنية كالفجر المتجدد؛ قبلةً للعلماء، وملاذًا للحالمين بمستقبل أكثر إشراقًا. في قاعاتها تولد الأفكار، وفي مختبراتها تُصنع الحلول، وفي ساحاتها يكبر الشباب وهم يحملون الوطن في عيونهم. معها يبدأ النهار بحلم، وينتهي مساءً بإنجاز، ومع كل صباح جديد تُنقش الحكاية من جديد في ذاكرة الأمة بمداد لا ينضب.
الأردنية لم تكن يومًا مجرد مؤسسة تعليمية، بل روحًا حية تتنفس من خلال أبنائها. من على مقاعدها جلس من صاروا وزراء وسفراء وعلماء وشعراء. ومن بين أروقتها خرجت كفاءات وصلت إلى أرقى جامعات العالم، وعقول أثرت المكتبات والمعارف. كانت دائمًا جسراً بين الماضي والمستقبل، وبين التراث والحداثة، بين الحلم والواقع.
وهكذا تبقى الحكاية حيّة، متجددة…
حكاية الدحنون والمآذن، الأجراس والكتب والعلم. الحكاية التي بدأت هنا، وستظل ما دام في الأردن قلب ينبض.
الأردنية في دمي… وللأردنية ننتمي