الأردن وأيلول: نظرة على الماضي والحاضر والمستقبل
فيصل سلايطة
03-09-2025 12:18 PM
عندما نقرأ تاريخ الأردن، نجد أنّ شهر أيلول يقف شاهداً كثيف الحضور في الذاكرة الوطنية. أيلول ليس مجرد زمنٍ على تقويم، بل محطة تاريخية حملت تحديات مصيرية، ووضعت الأردنيين جميعاً أمام اختبار الوجود والهوية والسيادة. أحداث أيلول لم تكن سهلة، بل مؤلمة، لكنها أيضاً شكّلت منعطفاً حاسماً في مسيرة الدولة الأردنية، وعلّمتنا دروساً لا تزال حاضرة حتى اليوم.
أحداث أيلول: صراع البقاء والسيادة
في أيلول 1970، واجه الأردن لحظة مفصلية مع محاولات تهديد كيانه واستقراره الداخلي. وجد الأردنيون أنفسهم أمام خطر حقيقي يتمثل في وجود قوى مسلّحة تسعى لأن تكون "دولة داخل الدولة"، وهو ما كان يهدد السيادة الوطنية ويضعف الكيان السياسي للدولة الفتية. لم يكن الصراع داخلياً بالمعنى التقليدي فقط، بل كان أيضاً انعكاساً لصراع إقليمي ودولي، حيث تداخلت حسابات القوى الكبرى مع الواقع المحلي.
الدماء التي سالت في تلك المرحلة لم تكن حدثاً عابراً، بل جزءاً من ثمن بقاء الأردن موحداً تحت سلطة الدولة الواحدة. ومن هنا، فإن أيلول – بكل قسوته – شكّل لحظة وعي جماعي لدى الأردنيين بأن البديل عن الدولة الواحدة هو الفوضى والتشرذم والانقسام , هو التجربة اللبنانية في الصراع الحالي مع حزب الله " الدولة داخل الدولة".
الجانب الإيجابي: ما الذي تعلمناه؟
رغم الألم الذي تركه أيلول في الذاكرة الوطنية، إلا أنه منحنا دروساً إيجابية يمكن البناء عليها:
1. ترسيخ مفهوم الدولة الواحدة: لا مكان لدولة داخل الدولة، ولا سلاح خارج إطار القانون.
2. أولوية الوحدة الوطنية: التنوع السكاني والسياسي في الأردن مصدر قوة، لكن بشرط أن يظل تحت سقف الدولة وسيادتها.
3. أهمية القرار الوطني المستقل: أيلول بيّن أن الأردن لا يمكن أن يكون ساحة لحروب الآخرين أو رهينة لمشاريع خارجية.
4. قيمة الجيش والأجهزة الأمنية: لقد أثبتت تلك المرحلة أن وجود مؤسسة عسكرية وطنية متماسكة هو صمام الأمان في أوقات الأزمات.
كيف نقرأ التاريخ؟
القراءة الناضجة للتاريخ لا تقوم على اجترار الآلام، ولا على الانتقام من الماضي، بل على استخلاص العبر وتوظيفها في الحاضر والمستقبل. إن النظر إلى أيلول من زاوية واحدة – كجرحٍ مفتوح – لا يخدمنا، بل المطلوب أن ننظر إليه كمدرسة سياسية واجتماعية أثبتت أن الدولة الأردنية قادرة على الصمود والتكيف.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عقود على أحداث أيلول، يقف الأردن أمام تحديات مختلفة: اقتصادية، إقليمية، أمنية، وديموغرافية. لكن المبدأ ذاته يبقى صحيحاً: الأردن لا يُحكم إلا بدولة واحدة موحدة، ولا يُحمى إلا إذا ظل أبناؤه صفاً واحداً أمام أي خطر داخلي أو خارجي.
إنّ استدعاء أيلول في حاضرنا ليس لإحياء الانقسام، بل لتأكيد الوحدة. فكما أن أيلول كان أسود على أعداء الدولة الأردنية، فإنه بقي أبيض في سجل الأردن لأنه حافظ على وحدته وسيادته، وأكد أن لا مشروع يعلو فوق مشروع الدولة المتماسكة.
التاريخ يقول لنا بوضوح: الدولة الأردنية وُجدت لتبقى، وكل محاولة لزرع كيان موازٍ أو مشروع خارجي على أرضها محكوم عليها بالفشل. الأردن – بجيشه وقيادته وشعبه – خرج من امتحان أيلول أقوى، وسيظل أقوى كلما تماسك أبناؤه حول فكرة الدولة الواحدة.
أيلول صفحة مليئة بالتحديات، لكنه أيضاً علامة على الصمود. لونه أسود على أعداء الأردن الذين حاولوا النيل منه، لكنه يبقى أبيض في سجل الأردنيين لأنه جسّد إرادتهم في الحفاظ على دولتهم. ومن هنا، فإن قراءة أيلول هي دعوة دائمة لليقظة الوطنية، وللتذكير بأن الوطن لا يُصان إلا بالوحدة، ولا يُبنى إلا بالتماسك، ولا يستمر إلا إذا بقي الأردن أولاً وأخيراً دولة واحدة لشعب واحد.