لماذا نحتاج العلوم الاجتماعية والإنسانيات اليوم أكثر من أي وقت مضى؟
أ.د وفاء عوني الخضراء
03-09-2025 08:33 PM
عندما نُهمّش العلوم الاجتماعية والإنسانيات في الجامعات والمجتمع، فإننا لا نفقد مجرد تخصّصات أكاديمية، بل نخسر المصدر الأصيل للأفكار التي ستحدد قيمة الدول والمؤسسات في القرن الحادي والعشرين. هذا ما تدركه دول مثل اليابان وإيطاليا والسويد، حيث تحرص على الحفاظ على نسب مرتفعة من الخريجين في مجالات الآداب والفلسفة والتاريخ والفنون، انطلاقا من قناعتها أن هذه الحقول لا تُعلّم الإنسان كيف يكتب ويحلّل وحسب، بل كيف يتخيّل، وينسج قصصاً، ويفسّر العالم بمعانٍ جديدة ويطرح الأسئلة الصعبة ويبحث عن الحلول الإبتكارية والريادية والخلاقة، ويجعل من الأفكار تحفة جمالية ومن هندسات الرأي والرأي الآخر مرونة عقلية تعبر بسلاسة وحكمة من أزمات الخطاب والهوية.
إن دمج النظرية الاجتماعية والإنسانيات في برامج الذكاء الاصطناعي هو الطريق لعبور آمن نحو المستقبل؛ فالمستقبل لن يكون لمن يكتفي بتقديم إجابات جاهزة، بل لمن يجرؤ على طرح أسئلة عميقة وابتكار معانٍ أصيلة وجديدة وإنتاج معارف بينية خارج الحدود التخصصية التقليدية. ولعلّ ما بدأنا نلمسه من تجارب تعليمية واعدة، مثل محاكاة الحوارات بين الأستاذ والطلبة عبر الذكاء الاصطناعي، أو الانتقال من تقييم المنتج النهائي إلى تقييم مسار التعلّم ذاته وعملياته المعقدة، يفتح الباب أمام شراكة خلاقة بين التقنية والخيال النقدي. وبهذا التداخل الذكي يمكن للآلة أن تدعم التعلّم العميق، لا أن تحلّ محلّه.
على امتداد آلاف السنين، تشكّل دماغ الإنسان كشبكة حيّة مذهلة، تنسج الذكريات والروايات والعلاقات في نسيج اجتماعي-ثقافي متداخل. ولم يكن بقاء الإنسان ذاته ممكناً لولا هذه القدرة الفريدة على التعاون والتكافل والرعاية والذاكرة الجمعية التي تحمي المعنى. هنا تحديداً تتقدّم العلوم الاجتماعية والإنسانيات لتكشف سرّ إنسانيتنا، وذاكرة اشتباكها بالتاريخ والجغرافيا، فهي التي تذكّرنا أن العقل ليس آلةً باردة لحساب البيانات، بل وعاء يفيض بالمشاعر والإبداع والخيال واليقين، يكتب قصتنا ويمدّنا بمعنى وجودنا وإمتدادنا الزماني.
العلم نفسه يؤكد ذلك ويرويه، إذ بينت الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب الثقافي أن الدماغ لا يعيش في فراغ، بل يتشكّل عبر اشتباكه الدائم بالبيئة والثقافة. موضحةً أن الممارسات والعادات المتكررة تعيد رسم خريطته العصبية، وهذا يعني أن حماية اللغة والتراث والقيم ليست ترفاً، بل استثمار في صحة أدمغتنا وذاكرتنا الجمعية وسلوكيات المجتمع. ومن هنا يتجلّى دور العلوم الاجتماعية الإنسانيات، فهي التي تفسّر لنا كيف تتشكل هذه التفاعلات بين الفرد والجماعة، وكيف تتحول الثقافة إلى ذاكرة حيّة تصنع الهوية وتوجّه السلوك. كما أن دور الثقافة في الدول دور محوري؛ لأنها تمثل عقل المجتمعات ونبضها ووجدانها. وفي اللحظة التي تغيب الثقافة تغيب النهضة، وإذا غُيِّب المثقف الرصين واستُبدل بمؤثري (الانتباه السريع)، حصدنا التيه الإنساني وفقدنا البوصلة التي تحمي هويتنا.
العلوم الإنسانية ليست مجرد مرآة للماضي، بل بوصلة للمستقبل؛ فهي التي تصوغ ملامحه وتمنحنا القدرة على الاستعداد له. إذ يرى بعض الباحثين أن الذاكرة لم تتطور لحفظ ما مضى فحسب، بل لتكون خزاناً استراتيجياً يُعيد تشكيل التجارب من أجل توجيه قرارات الغد. بهذا المعنى تتحول العلوم الإنسانية إلى مختبر للعقل، يدرّبه على استلهام الدروس، وبناء سيناريوهات بديلة، وابتكار مسارات لم تُجرَّب بعد. وحين نتعلم كيف نفكّك الخطاب ونقرأ ما وراء المعلومة، نصبح قادرين على التنبؤ وصناعة البدائل، وهي جوهر القيادة والإبداع في عصر مضطرب لا ينجو فيه إلا من يملك بصيرة نافذة وخيالاً يقظاً.
لقد نما حجم الدماغ البشري وتعقّد عبر آلاف السنين لأنه كان مضطراً لإدارة شبكات متشابكة من العلاقات: التعرّف إلى الوجوه، فهم النوايا، وتقدير دوائر الانتماء والولاء. وهنا يبرز علم السوسيغرافيا الذي يرسم خرائط العلاقات الاجتماعية عبر الملاحظة والتجريب، كاشفاً كيف تتشكل الروابط ومن يندرج في خانة الصديق ومن ينزلق إلى موقع الخصم. غير أن هذه البوصلة الدقيقة لا تُقرأ بالمعادلات وحدها؛ فهي تحتاج إلى ذاكرة تاريخية حيّة وتعاطف إنساني عميق لا يتقنه الذكاء الاصطناعي مهما بلغت قدرته. فأن تدرك الصديق من العدو ليس مجرد عملية حسابية، بل فعل وجودي يتطلب بصيرة جمعية وخبرة متراكمة، لا تختزلها أي خوارزمية.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي يضع بين أيدينا أدوات مذهلة: قدرته على تبسيط أعقد المفاهيم، وترجمة النصوص آنياً، ومساندة الطلبة ذوي الإعاقة وصعوبات التعلّم. بل وأكثر من ذلك، فإن تحليلاته الذكية قادرة على تتبّع أنماط القراءة والكتابة وتصميم أنشطة تعليمية تعلمية تناسب اختلاف العقول والمتعلمين وتنوع القدرات وأشكال التعلم. ومع ذلك، تبقى هذه الأدوات قاصرة من دون إشراف بشري يوجّهها، يحمي القيم، ويضمن العدالة وإدارة المعلومة وإستخدامها وإعادة إنتاجها. فالمعنى الحقيقي لا يُصنع في مختبرات الحساب وحدها، بل يولد في فضاء يلتقي العقل بالضمير، والتقنية بالخيال والإبتكار.
هنا يبرز التحدي الجوهري: كيف نوازن بين حتمية التقنية وضرورة الإنسانية؟ الجواب يكمن في تعليم عابر للتخصصات، حيث يلتقي المؤرخ بالمهندس، والفيلسوف بالعالم، والفنان بالمبرمج، في فضاء يذيب الحدود بين العقل والخيال، الحقيقة والجمال، الكيمياء واللوحة. عندها لا نرى التقنية خصماً يهددنا، بل شريكاً يكمّلنا. المستقبل الأذكى هو ذلك الذي يبقى إنسانياً في عمقه، يحمي الخيال والرحمة والتواصل من أن تبتلعها الخوارزميات، ويحوّل الخوف من الآلة إلى وعي جديد أكثر حكمة.
أنسنة العلم ليست عائقاً أمام التقدّم، بل هي شرطه الأخلاقي والحضاري. العلوم الاجتماعية والإنسانيات، في سياقاتها الفكرية والأخلاقية، قادرة على أن تمنح الذكاء الاصطناعي معنى يتجاوز حدود الخوارزميات، ويقيناً يعبر المكان والزمان، وقِيَماً تحمينا من صراعاتنا وخلافاتنا المستمرة.