فرص ضائعة .. نظرة من الأرشيف الشخصي
بهاء الدين المعايطة
08-09-2025 01:24 AM
وأنا أتصفح أرشيف رسائلي الذي مضت عليه سنوات طويلة من الحفظ، والذي اعتدت أن أعود من خلاله بذاكرتي إلى سنوات مضت، اكتشفت حجم ما يفتقده كثيرون ممَّن يسمّون أنفسهم أصحاب القرار، تعيدني تلك الرسائل إلى كمٍّ غير محدود من البحث عن مصالح شخصية دون أي جهد مسبق.
كم يؤلمني أن نرى مسؤولًا أو أكاديميًا لا يجيد صياغة جملة واحدة صحيحة، وكم يؤلمني أن الشهادات العليا باتت تُشترى بالمال، وكذلك المناصب، واليوم نرى الحجم الحقيقي لذلك الجهل الأكاديمي والإداري رغم كثرة الشهادات، وأيقنت أن الشهادة لا تصنع إنسانًا بقدر ما تصنعه المعرفة، وأنها ليست سوى ورقة فارغة تُعلَّق على الجدران.
أعادتني رسائلي إلى ما كنت أعانيه سابقًا جرّاء البطالة، ذلك الكابوس الصعب بالنسبة لي، وإلى حجم الاستغلال المفرط لسلطة اتخاذ القرار. اليوم، راجعت إحدى الرسائل القديمة الموجهة من أحد المسؤولين، وكان مضمونها عرض وظيفة في قطاع شبه حكومي، مقابل أن أكتب له عدة مقالًات بمناسبات وطنية أضعها باسمه، وأن تكون كلماته مسروقة لتُنسب إلى ذلك المسؤول المبجَّل، الذي اعتاد أن يبحث عن كتّاب مقابل إغراءات ليست سوى وعود عابرة، وكم أحزنني أن طاقات الشباب في وطننا أصبحت وسيلة للاستغلال، لتُتخذ طريقًا سهلة لفتح الأبواب الفولاذية على حساب الآخرين ولأهداف شخصية بحتة.
كم أحزنني أن جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله، لا يكفّ عن الوصية بالشباب والتأكيد على دورهم، لكن لا نجد من يصغي بصدق لتوجيهاته ومطالبه، لم نرَ دعمًا حقيقيًا للشباب سوى دعوتهم للانخراط في الأحزاب، التي باتت في كثير من الأحيان مطمعًا لأصحابها، إن شبابنا بحاجة إلى أن نسلّط الأضواء على طاقاتهم وقدراتهم، لنصنع قادة قادرين على النهوض بالوطن وتحمل المسؤولية في مختلف الميادين.
يا سيدي، اليوم نرى كثيرًا من المسؤولين لا يعملون من أجل الوطن وأبنائه بقدر ما يسعون وراء أهدافهم الشخصية، أصبح الوطن أشبه بطفل يتيم تنهشه الأيادي بلا رحمة، وأصبحنا نحن أبناءه مهمَّشين في أيدي الظلام، أضعف وسيلة على مرّ العصور، أصواتنا لم تعد تعني شيئًا لأحد، ومصيرنا بات ضائعًا رغم كل سعي، فيما تصدّرت المراتب أولئك الذين يملكون الواسطة، ونحن لا نملك اليوم سوى حبّنا لوطننا وولاءنا لقيادته الحكيمة، التي اعتدنا منها العدل والحكمة، وكم تمنيت لو تعلّمنا من آل هاشم بعضًا مما يحملونه من قيم وخصال، لعلنا نعيد للوطن وهجه ومكانته.
إلّا أن النبل لا تصنعه المناصب، بل يولد مع الإنسان منذ نشأته الأولى، وكم تمنيت أن نرى مسؤولًا يضع نفسه خادمًا لأبناء الوطن، وكم تمنيت لو كانت أبواب المكاتب مفتوحة كما جعلها قائد الوطن، لكن ذلك لا يتجاوز أحلامًا بريئة نحاول أن نقنع أنفسنا بها، فالمسؤول في كثير من الأحيان لا يكون إلا مسؤولًا عن نفسه، يرعى مصالحه ومصالح عائلته ويضعهم فوق الجميع، أمّا الوطن، فلم نعتد يومًا أن نلومه، لأنه الأرض الطيبة البريئة، لا ذنب لها فيما اقترفه أبناؤها.
الشباب ليسوا وسيلة للاستغلال، بل هم عماد الوطن وسنده، كما وصفهم سيدي صاحب الجلالة، فهم الطاقة المتجددة التي لا تنضب، والركيزة التي تُبنى عليها النهضة والتقدّم، وإذا لم يُمنح الشباب الفرصة الحقيقية للمشاركة وصناعة القرار، فلن يكون للوطن مستقبل يليق بتاريخه العريق. إن تمكين الشباب وتوجيه طاقاتهم هو السبيل الأوحد لبناء قادة قادرين على حمل الرسالة، وصون الأمانة، والسير بالوطن نحو آفاق أرحب من الإنجاز والعطاء.
عادت إليّ ذكرياتي السيئة دفعة واحدة، لم تمهلني أن تأتي واحدة تلو الأخرى لأصنع منها كتابًا للمستقبل، قبل سنوات ليست بعيدة، تسلّم رئاسة الوزراء رجل كانت معرفتي به سطحية، دار بيننا حديث عابر، وكنت حينها شابًا كغيري من الشباب أبحث عن وظيفة، لا أملك سوى أملي بالله.
وعدني ذلك الرئيس بوظيفة في إحدى الوزارات الحكومية، وقال لي بالحرف الواحد "أرسل لي سيرتك الذاتية"، كم أسعدني ذلك الوعد الذي ملأ قلبي أملًا، فانتظرت أيامًا على أمل أن يتخذ قراره بتعييني، تحولت الأيام إلى شهور، ثم إلى سنوات، وأنا أعيش على رجاء اليوم الموعود الذي لم يأتِ، مضى الرئيس ومضى وعده، وبقي ذلك الشاب يحمل همّ إعالة أسرته، لا نفسه فقط.
حينها أيقنت أن الواسطة هي الشهادة الحقيقية، وليست الشهادة واسطة، وأدركت أن كثيرًا من الكفاءات تضيع وتُهمَّش لأن أصحابها لا يملكون سوى علمهم واجتهادهم، بينما يتقدّم غيرهم بالمحسوبية والعلاقات، هكذا تحولت الفرص من حقّ مشروع إلى غنيمة تُوزَّع على المقربين، وضاع معها حلم الشباب بأن تكون الشهادة جسرًا للمستقبل، لا ورقة تُعلَّق على الجدران.