في عصر تتسارع فيه العلوم وتتوثّق فيه النتائج عبر تجارب قابلة للتكرار، نجد عندنا ـ في العالم العربي ـ مفارقة سلوكية مدهشة: نستورد الأدوية و التكنولوجيا والتقنيات الطبية من مختبرات الغرب ونعتمد عليها في علاجاتنا وجراحاتنا، لكننا نتمسّك أحيانًا بمعتقدات تنفي حقائق علمية بسيطة من قبيل كروية الأرض. هذا الانفصام ليس مسألة فضول فحسب؛ بل هو انعكاس لأزمة أعمق في الثقافة والتعليم والهوية الجمعيّة.
أولاً، لماذا نثق بمنتج علمي غربي ونشكّك في مؤسسات علمية مثل "ناسا"؟
لأن الثقة هنا قائمة على المصلحة فقط! الدواء ينقذ حياة مريض، والطائرة توصل المسافر، والهاتف الذكي يسهل التواصل. النتائج الملموسة تقنعنا. أما القضايا المعرفية المجردة—كالفيزياء الفلكية أو نموذج كروية الأرض—فأحيانًا تُسوّق في إطار ثقافي أو سياسي يجعلنا نتشكك قبل أن نتحقق. وهنا تظهر مشكلة أساسية: لدينا قابلية إنتقائية للاعتماد على العلم متى ما خدم حاجاتنا المباشرة، ورفضه متى ما تعارض مع سردٍ موروث أو شعورٍ بالهوية أو نظرية مؤامرة تبعث بالراحة.
ثانيًا، الخسوف القمري الأخير كان اختبارًا واضحًا للواقع المحايد. عند خسوف القمر نرى بوضوح ظل الأرض مستديرًا يقطع قرص القمر، وهو برهان بصري بسيط على كروية الأرض. لكن بدل أن يكون هذا الحدث مادة للدهشة والتعلم، استُبدل ببعض الأجوبة الجاهزة أو بآليات تبرير تحفظنا المعرفي: "تلاعب بصري"، "مؤامرة"، أو تحويل الموضوع إلى نقاشات سياسية أو دينية بعيدة عن العلم. النتيجة: نفس الثقافة تقبل الأثر العملي للعلم وتنسحب من حقل الحقيقة العلمية المباشرة.
ثالثًا، أسباب الانفصام عديدة ومتشابكة. التعليم التقليدي الذي يحفظ بدلاً من أن يشرح، ضعف التفريق بين العلم والمنهجية العلمية، انتشار معلومات مضللة عبر وسائل التواصل بدون أدوات تحقق، واستغلال بعض الجهات للشائعات كأداة لبناء هوية مقاومة أو تحقيق مكاسب اجتماعية. إضافة لذلك، الخوف من فقدان السيطرة على السرد التاريخي أو الاجتماعي يدفع البعض لرفض ما يبدو "خارجيًا" حتى لو كان مثبتًا عمليًا.
رابعًا، العواقب ليست نظرية فقط. إن فقدان الثقة في المؤسسات العلمية العامة يضعف قدرة المجتمع على مواجهة أزمات حقيقية: الأوبئة، التغير المناخي، إدارة الموارد، والسلامة التكنولوجية. عندما نقبل دواءً لأن نتيجته فورية ومرئية، ونرفض حقائق علمية لأن قبولها يتطلب إعادة ترتيب معرفي أو ثقافي، فإننا نخسر القدرة على التخطيط المستند إلى أدلة طويلة الأمد.
أخيرًا، كيف ننهض من هذا الانفصام؟ البداية بسيطة لكنها ليست سهلة: تعليمٌ يعيد بناء مهارات التفكير النقدي، ومناهج تشرح المنهج العلمي لا تدرّسه حفظًا فحسب؛ إعلامٌ مسؤول يفضّل التحقق على الإثارة؛ ومواقف قيادية تشجع الشفافية بدل التهوين أو التضخيم. كذلك، علينا أن نعترف كمجتمع بأنّ قبول العلم لا يعني تسليم الهوية، بل يمكن أن يقوّيها عندما تُستخدم المعرفة لخدمة الإنسان والكرامة والعدالة.
ليس الاستفادة من منتجات العلم الغربي نفاقًا بقدر ما هو ممارسة عقلانية. النفاق يبدأ حين نختار متى نؤمن بالعلم تبعًا لمنفعتنا اللحظية، ومتى نرفضه لأنّه لا يتوافق مع سردٍ أو هوية. لنجعل من الخسوف الأخير للقمر مناسبة لإعادة بناء عقلية فضولية وواقعية—نؤمن بما نراه، نتحقق مما نسمع، ونبني مجتمعًا يؤمن بالتجربة والدليل كطريق للأفضل، لا كمباراة انتقائية نختار فيها ما يسايرنا فقط.