مختصر غاية الأماني للدكتور مصطفى الستيتي: قراءة نقدية تحليلية
16-09-2025 07:32 PM
عمون - قراءة: مصطفى القرنه
تلوح في هذا العمل نفحة وفاء لِلُغةٍ طال هجْرها، وإحياءٌ لصوتٍ غاب عن السّمع طويلًا، فحُسب مواتًا. غير أن "مختصر غاية الأماني في تفصيل قواعد اللسان العثماني" لا يقدّم نفسه كتابًا لغويًّا تقليديًّا، ولا يظهر على هيئته الأولى مجرّد تلخيص لمرجع أصلي، إنما يتقدّم كجسر يمتدّ بين الماضي والراهن، بين الذاكرة العثمانية العتيقة وعقل الباحث العربي المعاصر. هو أكثر من كتاب في القواعد، إنه نداء معرفي، يوقظ في قارئه شعورًا عميقًا بأن اللسان العثماني ليس لسان إدارة فحسب، بل وعاء ذاكرة، وخزان حضارة، ومفتاح لأرشيف أُمّة لم تبح بكلّ ما في جعبتها بعد.
الكتاب مكتوب بعناية تُشبه الكتابة على الماء بالحبر الخفي. لا عجلة في العرض، ولا إسراف في الشرح، ولا تطويل يبعث على النفور. الأسلوب مائل إلى البيان، لكن دون تكلّف. اللغة منسابة بإيقاع عربيّ فصيح، تنطق بلسان القارئ العربي، فتلامسه من قريب، دون أن تغلق الباب على المتخصّص أو المبتدئ. كل فقرة تحمل إحساسًا بالمسؤولية التاريخية تجاه هذه اللغة التي ظُلِمت بالتهميش، ثم أُهملت في مناهج الدرس الحديث.
يتراءى للقارئ، في ثنايا الصفحات، حرص المؤلف على أن يكون المختصر أداة عملية، لا نصًا للزينة اللغوية. غير أن هذه العملية لم تُنتج جفافًا ولا برودًا معرفيًا، بل حافظت على حرارة الكلمة، ورونق الأسلوب، واتزان العبارة. لم تنكسر الجملة في مواضع التبسيط، ولم تُفرّغ من معناها في مواضع الاختصار، إنما ظهرت مدروسة، مُهذّبة، مطواعة لغرضها، كأنها خُيطت على مقاس القارئ العربي الذي لا يبتغي سوى النفاذ إلى النصوص العثمانية دون وساطة مُترجم أو فلتر ثقافيّ.
المادة المقدَّمة توحي بذوق لغويّ رفيع. تم اختيار الأمثلة بعناية تكشف عن دقّة في الفهم، وعمق في المعرفة، وحسٍّ تعليمي يُراعي المتعلم من حيث هو إنسان يُريد أن يفهم قبل أن يحفظ. الأمثلة ليست مُفصّلة لتأدية وظيفة قاعدية فقط، بل نُسجت لتفتح أفقًا لفهم الجوّ الذي كانت تُستعمل فيه، وكيف تشكّلت بها ثقافة المراسلة، وأسلوب الكتابة الرسمية، ونَسق التواصل بين المركز والأطراف. ثم إنّ حرص المؤلف على تشكيل النصوص العثمانية ينمّ عن تقدير بالغ لصعوبة المرحلة التعليمية الأولى، حيث تتعثر الألسن وتضطرب العيون بين الخطوط الغريبة والحروف المتداخلة. فجاء التشكيل كعصا يتكئ عليها القارئ حتى يستقيم لسانه وينطلق.
من مكامن الجمال في الكتاب تلك القدرة على الربط بين الوظيفة النحوية والوظيفة الثقافية للّغة. لم تُعرض القواعد في فراغ، ولم تُسرد الأمثلة كمجرد تمرينات لغوية، إنما اتخذت سبيلًا يوصل المتعلّم إلى المعنى الأكبر: اللغة ككائن حيّ يحمل في مفرداته تاريخًا، وفي تركيبه صورة عن الذهن الذي صاغه. وهكذا يصير الدرس النحوي نافذة تطلّ منها على روح عصر، لا على مجرّد تصريف فعل أو بناء جملة.
هذا المختصر يضيء الطريق لمن أراد أن يفكّ رموز الوثائق العثمانية، لكنه لا يكتفي بالإضاءة التقنية، إنما يحمّله عبئًا معرفيًّا، ومسؤولية أدبية تجاه هذا الموروث المهجور. من يقرأه لا يخرج بمهارة لغوية فحسب، بل يحمل في نفسه يقينًا بأن الانتماء إلى التاريخ لا يتمّ بالتأمل في صوره، بل بفهم لغته، وامتلاك مفاتيحه.
تتجلى في الكتاب روح احترام الأصل، دون أن يتحول هذا الاحترام إلى انغلاق. المؤلف لم يسجن نفسه في بنية المرجع القديم، ولم ينجرف إلى التبسيط المُفرط الذي يفقد المادة نكهتها. قدّم اختصارًا واعيًا، لا اختزالًا مُخلًّا، وحذف ما لا ضرورة له دون أن يتساقط منه المعنى في الطريق. حافظ على التسلسل التعليمي، وراعى الحاجة المعاصرة، ولم يُفرّط في الجوهر الذي من أجله وُضع الأصل.
هذا عمل يعيد الاعتبار للدرس اللغوي التاريخي، لا بوصفه حفرًا في أطلال لغوية، بل باعتباره فعلًا استنهاضيًا. هو خطوة في طريق طويل، غير أن ما يجعلها لافتة هو أنها لم تُكتَب على عجل، ولم تُسطَّر تحت ضغط الحاجة السوقية، بل نُسجت بخيط من الرؤية، ومغزل من الوعي، وبوصلة تتجه نحو الأرشيف، لا نحو الاستعراض.
يبقى هذا الكتاب شهادة على أن العناية باللسان ليست ترفًا، وأن الجمال في التعليم لا يصنعه التبسيط الفجّ، بل تصنعه القدرة على التخفيف دون تفريط، وعلى الإيضاح دون استسهال. ومن أراد أن يتقن فنّ التعليم، فلينظر كيف تُكتب القواعد في مختصر كهذا، حيث لا صراخ ولا ثرثرة، بل سكينة لغوية تُهيّئ النفس لاستقبال المعرفة كما لو كانت هبة.