الدم العربي والصمت الدولي
بهاء الدين المعايطة
20-09-2025 12:23 AM
يشهد العالم المتوتر اليوم حالاتٍ غير مستقرة، ومشاهد من الترقب تُطبَخ على نارٍ هادئة فوق صفيحٍ ساخن، فيما الأيادي المرتجفة تراهن على حماية سيادتها من قوى الظلام التي حوّلت الشرق الأوسط إلى بؤرة لا تعرف الهدوء، عالم يراقب بصمت، ويدفع ثمن سكوته بتجاوزات باتت أشبه بالخيال، فيما دفعت دول ثمن الصمت العربي وغطرسته، ودول أخرى ما زالت تدعم هذا المشهد لأسباب غامضة، فلماذا أصبح العالم العربي أداةً سهلة بيد الاحتلال الإسرائيلي، يهاجمه متى شاء حتى دون سابق إنذار؟ ولماذا غدا الدم العربي أرخص من الماء؟.
وفي القوانين الغربية، بات من المسلَّم به أنّ للحيوانات حقوقًا في الحياة، وأنّ قتلها يُعَدّ جريمة يُحاسَب عليها القانون بموجب تشريعات صارمة تمنع الاعتداء عليها، غير أنّ هذه القوانين سرعان ما تسقط حين يتعلق الأمر بالدول العربية، حيث شُرِّع القتل وغُضّ الطرف عنه، فيما تتظاهر تلك الدول بوجوه بريئة أمام شاشات التلفاز، بينما في الخفاء تدعم آلة الموت.
وغزة اليوم المثال الأبرز على ذلك، إذ تعيش واحدة من أعنف المآسي الإنسانية في العصر الحديث، بعد أن ارتقى فيها آلاف الشهداء نتيجة حرب مدمِّرة تحظى بدعم مباشر من الولايات المتحدة، حرب لم تعد مجرّد مواجهة عابرة، بل إبادة جماعية تُرتكب على مرأى ومسمع العالم أجمع، بينما يظل الصمت الدولي هو العنوان الأوضح.
صمتٌ يترجم تواطؤًا، ويكشف زيف القوانين التي طالما تغنّت بها تلك الدول في مؤتمراتها ومنابرها الحقوقية، ازدواجيةٌ بلغت ذروتها؛ فحيث تُجرَّم في الغرب جريمة قتل حيوان، يُباح في المقابل سفك دماء آلاف الأطفال والنساء في غزة بلا محاسبة أو عقاب، فأي قيمة تبقى لقوانين لم تُنصف الإنسان؟ وأي شرعية لحقوق لا تُصان إلا داخل حدودهم؟.
وكما شهدنا سابقًا في لبنان، التي دفعت ثمن جمالها وكانت ضحيةً ورسالةً للعالم بأن أي دولة لا يمكن أن تبقى آمنة أو مستقرة، وأن مجرد قول كلمة واحدة قد يجرّها إلى مواجهة عسكرية مباشرة ومدمرة تنهك سيادتها وتستنزف قدراتها، وكما سوريا التي عانت طوال أربعة عشر عامًا من حروب ساحقة نتيجة سياسات النظام السابق، الذي حوّل الحرب إلى إبادة مخفية تُسمم حياة الشعب السوري لتبقى السلطة في قبضته، وجاء بعدها فرج الله لتحرير البلاد، إلا أنّ المعاناة لم تنتهِ، إذ بقيت شوكة الاحتلال تعانق كل شيء، وكما حدث في العديد من الدول الأخرى، فقد أصبحت أدوات سهلة التدمير أمام عالم صامت.
هذا الصمت الدولي المستمر وتواطؤ القوى الكبرى حول العديد من الدول العربية إلى ساحات اختبار قابلة للتدمير في أي لحظة، حيث تُنسف الحقوق والسيادة تحت أعين العالم الذي يكتفي بالمشاهدة، لقد أصبحت الإنسانية في هذه المناطق رهينة لمصالح سياسية واقتصادية، وأضحى الصراع حياةً بلا أمل، ودماء الأبرياء عملةً رخيصة في معادلات القوة العالمية، وفي كل حالة، تتكرر نفس المعادلة، غياب العدالة، ضعف المؤسسات الدولية، وتغاضي المجتمع الدولي عن القيم الإنسانية، ليظل الدم العربي عرضة للتضحيات، والحقائق تُغلف بصمت لا ينكسر إلا بتضحيات الشعوب وصمودها.
ماذا على العالم العربي أن يفعل، وماذا عليه أن يقدم لحماية نفسه، من السهل أن تتحد الدول العربية والإسلامية لمواجهة تداعيات الأحداث، وأن تعمل على بناء جيش مشترك قادر على حماية المحيط العربي من أيادي جلبت للمجتمع الدولي المصائب، وجعلت من دماء الإنسان وسيلة للتراهن والمكاسب السياسية، اليوم، ومع ما نشاهده من أحداث، لم نعد نعلم ماذا سيحمل لنا الغد: هل سنكون آمنين حقًا، أم أننا سنواجه ما واجهه العالم من قبلنا؟ العدوان لم يميز بين أحد طالما الدعم الأمريكي لإسرائيل قائم، ولم تُحترم سيادة أي دولة طالما أصبح الدمار سهلاً، دقائق قليلة قد تغيّر العالم، لتظهر بعدها تبريرات الإرهاب التي الصقوها بالشعوب العربية، إلا أنّ الحقيقة أنّ الإرهاب يُبنى بإرادتهم لتفتيت البنية الأساسية للعرب، كم نشهد من عمليات إرهابية فردية تقع داخل الدول الغربية نفسها وتُنفَّذ على أيدي أبنائها، وهو ما يثبت أن الإرهاب لم يكن يومًا عربيًا.
لذلك أصبح من الضروري أن يعي العالم العربي حجم المخاطر التي تواجهه، وأن يتحرك بسرعة قبل فوات الأوان، فالأمر لا يقتصر على تكتلات كلامية أو بيانات تصدر عن القمم، بل يتطلب خطوات عملية على الأرض: بناء قدرات دفاعية مشتركة، وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي، ووضع استراتيجيات موحدة تحمي السيادة العربية، وإن الوحدة والتضامن بين الدول العربية والإسلامية لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة ملحة، فغياب هذه الوحدة يجعل الشعوب العربية فريسة سهلة للطامعين، ويتيح للآخرين تحويل الأرض العربية إلى مسرح لتصفية مصالحهم على حساب حياة الإنسان ومستقبل الأجيال.
في ظل هذه الحقائق المؤلمة، لم يعد الصمت خيارًا مقبولًا، ولم تعد المظاهر مجرد كلمات على المنابر تكفي للحماية أو للردع، على العالم العربي أن يستيقظ من سباته، ويعيد ترتيب أولوياته بين الوحدة والتضامن والحفاظ على كرامة الشعوب وسيادة الدول، فالأمن والاستقرار لا يُقدَّمان كهدايا من الآخرين، بل يُبنى بالعمل المشترك، والإرادة الصلبة، والقدرة على مواجهة كل تهديد، وإذا كان التاريخ قد شهد فصولًا من الظلم والدمار، فإن المستقبل لا يزال بين أيدينا، ولن يكتب إلا بالعزيمة والصمود، وبالالتزام بحماية دماء الأبرياء، والحفاظ على الحق العربي في الحرية والسيادة.