facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




المكان والهويّة في الرّواية الأردنيّة: دراسة في "شارع العشّاق" لنوال القصّار


22-09-2025 01:53 PM

عمون - قراءة د. دورين نصر - تأتي رواية "شارع العشّاق" للكاتبة نوال القصّار بوصفها نصًّا يتجاوز السّرد الغراميّ التّقليديّ ليغدو وثيقة أدبيّة-أنثروبولوجيّة تسعى إلى تثبيت هويّة جماعة مهدَّدة بالتّراجع الدّيموغرافيّ والثّقافيّ. تدور الأحداث في مدينة مادبا، غير أنّ هذه المدينة لا تحضر بوصفها مسرحًا للأحداث، بل كفاعل سرديّ يُعيد تشكيل علاقة الأفراد بذاتهم وبالآخر. من هنا تنفتح الرّواية على أسئلة تتجاوز الحيّز الشّخصيّ إلى ما هو جمعيّ: كيف يمكن للأدب أن يكون أداة مقاومة للغياب؟ وكيف يتحوّل المكان إلى نصٍّ يكتب الهويّة؟

وتكمن إشكاليّة هذه الدّراسة في محاولة الإجابة عن سؤال مركزيّ:

كيف يتحوّل المكان في "شارع العشّاق" من فضاء جغرافيّ إلى هويّة سرديّة تُعيد إنتاج الذّاكرة الجمعيّة للمسيحيّين في مادبا؟

ويتفرّع عن هذا السّؤال المركزيّ تساؤلات عدّة:

بأيّ معنى يصبح الغريب (فرانسوا) جزءًا من اختبار الهويّة؟

كيف يُعاد تعريف الحبّ في النّصّ بوصفه استعارة للانتماء؟

ما وظيفة الطّقوس والعلامات الثّقافيّة في تثبيت الهويّة داخل المتن الرّوائيّ؟

في الواقع، تعتمد هذه الورقة النّقديّة مقاربة متعدّدة المستويات:

1. المقاربة السّيميائيّة: قراءة العلامات المكانيّة (الكنيسة، المطعم، المنسف…).

2. المقاربة الحواريّة (باختين): تفسير تعدّد الأصوات وتفاعلها داخل النّصّ.

3. المقاربة الأنثروبولوجيّة: فهم الطّقوس والذّاكرة بوصفها عناصر مؤسّسة للهويّة.

إذا كانت الرّواية تنفتح في ظاهرها على حكاية مثلثّة الأطراف، فإنّ بنيتها العميقة تكشف أنّ العاطفة ليست سوى القشرة الخارجيّة لنصّ أوسع مدى، نصّ تُبنى دلالاته على الذّاكرة والهويّة والانتماء. هنا يبرز المكان بوصفه المحور الأكثر حضورًا في الرّواية، ليس لأنّه يمثّل خلفيّة للأحداث أو إطارًا لزمنها، بل لأنّه يتحوّل إلى بطل سرديّ يفرض شروطه على الشّخصيّات ويعيد تشكيل صراعاتها. إنّ فهم "شارع العشّاق" من دون التّوقّف عند مادبا – مدينةً ونصًّا ورمزًا – يفقد الرّواية جوهرها، إذ بها وحدها يتّضح كيف يتجسّد سؤال الهويّة، وكيف يُعاد إنتاج الحضور الجمعيّ في وجه الغياب. ومن هذا المنطلق تبدأ قراءتنا بالمكان، كونه العتبة الأولى التي تنفتح منها الرّواية على أفقها الرّمزيّ.

أوّلًا- المكان: من الجغرافيا إلى الهويّة

يحضر المكان في "شارع العشّاق" بوصفه الشّخصيّة الأكثر رسوخًا وهيمنة على مسار الرّواية. فمادبا لا تُستعاد هنا بوصفها مدينة تقع على الخريطة الأردنيّة فحسب، بل تُبنى سرديًّا ككيان متخيَّل يجمع بين طبقات التّاريخ، ومخزون الذّاكرة الجمعيّة، وقلق الهويّة المهدَّدة بالانكماش. وبذلك، يتجاوز المكان وظيفته التّقليديّة بوصفه خلفيّة للأحداث، ليصبح البنية التّحتيّة التي ينبثق عنها السّرد، والشّرط الجماليّ والمعرفيّ الذي تتأسّس عليه الرّواية؛ فهي تقدّم مادبا بوصفها مدينة فسيفسائيّة بالمعنى الحرفيّ والمجازيّ معًا: فكما تتجاور الأحجار الصّغيرة لتشكّل لوحات فسيفسائيّة دينيّة، تتجاور في النّصّ طبقات التّاريخ والطّقس والعاطفة لتشكّل لوحة سرديّة جامعة. الكنائس ليست مجرد معالم عمرانيّة بل علامات سيميائيّة تعيد إنتاج الانتماء. الشّوارع ليست مسالك عبور بل ممرّات في الذّاكرة، والمطاعم التّراثيّة والأطعمة الشّعبيّة (كالمنسف والقراص) لا تُذكر باعتبارها تفاصيل إثنوغرافيّة، بل باعتبارها نصوصًا رمزيّة تؤكّد حضور الجماعة في مواجهة إلغائها. حتّى الفضاءات الصّغيرة (بيت، مغارة، شارع جانبيّ) تتحوّل إلى تساؤلات عن المصير: الامتلاء أو التّلاشي، الحضور أو الغياب.
بهذا المعنى، يُفهم المكان في الرّواية باعتباره أرشيفًا سرديًّا يعيد كتابة ما لا يدوّنه المؤرّخون وما لا تحفظه السّجلّات الرّسميّة. فالتّاريخ الدّيموغرافيّ للمسيحيّين في مادبا – من حضور كثيف في مطلع القرن العشرين إلى تراجع واضح في العقود الأخيرة – لا يُروى هنا بلغة الأرقام، بل بلغة الحكاية. السّرد هو الذي يلتقط هذا الانكماش ويعيد صياغته في صور ملموسة: شارع يخلو تدريجيًّا من سكّانه، كنيسة تتضاءل جموع مصلّيها، أو مائدة عيد تُقام لكن بأيدٍ أقلّ من الماضي.

ولعلّ الأهمّ أنّ المكان يتحوّل إلى بطل صامت يملي شروط اللّعبة على الشّخصيّات. فماريا لا تستطيع أن تفهم نفسها خارج علاقتها بمادبا، ولا حنّا يستطيع أن ينفصل عنها تمامًا رغم اغترابه، ولا فرانسوا يستطيع أن يتجاوز سحرها رغم كونه غريبًا عنها. إنّهم جميعًا محكومون بالمكان: هو الذي يمنحهم الشّرعيّة أو يسلبها، وهو الذي يحدّد معنى الغياب والحضور. بهذا يتحوّل المكان إلى ما يشبه «الرّاوي الخفيّ» للرّواية، الذي لا يتكلّم بصوته المباشر، لكنّه يحرّك جميع الأصوات من خلف السّتار.

هكذا، يصبح المكان في "شارع العشّاق" أكثر من جغرافيا: إنّه هويّة سرديّة تتشكّل عبر الحكاية، ووسيلة لمقاومة النّسيان الثّقافيّ، وإعلان ضمنيّ أنّ المدينة يمكن أن تظلّ حيّة بالسّرد حتّى لو تقلّص ساكنوها.

وإذا كان المكان هو البنية التّحتيّة التي يقوم عليها السّرد في الرّواية، فإنّ هذا المكان لا يكتمل حضوره إلّا عبر العلاقات الإنسانيّة التي تتشكّل فيه. فالمكان، مهما بلغ من ثراء رمزيّ، يحتاج إلى الوجوه التي تعيشه وتتصارع فيه. ومن هنا تظهر جدليّة الأنا والآخر: الذّات المتجذّرة في مادبا في مواجهة الغريب القادم من خارجها، أو في مواجهة الحبيب الغائب عنها. بهذا ينتقل النّصّ من وصف الفضاء إلى اختبار الهويّة داخل شبكة من العلاقات، حيث تُصبح المواجهة مع الآخر، غائبًا كان أو حاضرًا، شرطًا لفهم الذّات ولتثبيت وجودها.

ثانيًا- الأنا والآخر: اختبار الهويّة بين الغربة والغريب

إن جدليّة الأنا والآخر في "شارع العشّاق" ليست مجرّد عنصر دراميّ يضيف التّوتّر إلى الحبكة، بل هي المنظور الذي يعيد إنتاج معنى الهويّة في النّصّ. الرّواية تبني هذه الجدليّة عبر ثلاثيّة أساسيّة: ماريا التي تمثّل الذّات الممزّقة بين الانتماء والاغتراب، حنّا الذي يمثّل الغائب/الحاضر المرتبط بالهجرة والغرب، وفرانسوا الذي يمثّل الغريب الباحث عن الشّرق المسيحيّ.

ماريا: إنّها من جهة مرتبطة بمكانها وتاريخه وطقوسه، ومن جهة أخرى مأخوذة بغياب الحبيب وإغواء الغريب. شخصيّتها تكثّف الصّراع بين الأنا والآخر، بحيث تتحوّل إلى صورة للجماعة كلّها، لا لفرد بعينه.

حنّا: غيابه الجسديّ وحضوره الهاتفيّ يشكّلان استعارة للانتماء النّاقص. إنّه «الآخر القريب» الذي يحمل وعد الارتباط لكنّه يظلّ مؤجّلًا، تمامًا كما هي علاقة الجماعة المهاجرة بوطنها: نصف داخل، نصف خارج. حنّا هو تمثيل للهجرة بما تحمله من اغتراب وحلم مؤجَّل.

فرانسوا: الغريب الذي يدخل النّصّ لا بوصفه مستشرقًا متعاليًا، بل بوصفه طالب معرفة يسعى إلى التّعلّم والانغماس في المكان. غير أنّ حضوره يخلخل ثبات ماريا ويفضح هشاشة علاقتها بحنّا. فرانسوا ليس تهديدًا بالمعنى الكلاسيكيّ، لكنّه امتحان يضع الذّات أمام سؤال: هل الانفتاح على الآخر يعادل الذّوبان فيه، أو أنّه يمنح الذّات فرصة لتأكيد حضورها؟

بهذا المعنى، يتجاوز النّصّ الثّنائيّة التّقليديّة بين الدّاخل والخارج، ليكشف عن مساحة رماديّة يعيش فيها الأنا والآخر في علاقة تداخل لا في علاقة تضاد مطلق. فالأنا لا تعرف ذاتها إلّا عبر مرآة الآخر، والآخر لا يحضر إلّا بقدر ما يعرّي هشاشة الأنا. وهنا تظهر قيمة الحواريّة بالمعنى الباختينيّ: كلّ صوت في الرّواية – حنّا، فرانسوا، ماريا، ربى – ليس مجرّد وظيفة سرديّة، بل أفق معرفيّ قائم بذاته، يشارك في إعادة إنتاج سؤال الهويّة.

إنّ الصّراع بين الأنا والآخر في "شارع العشّاق" هو في جوهره صراع حول المكان ذاته: من يملكه؟ من يسكنه؟ ومن يحقّ له أن يُعرّف ذاته من خلاله؟ وبهذا يتّضح أنّ الآخر ليس مجرّد شخصيّة ثانويّة، بل هو عنصر بنيويّ يكشف عمق أزمة الهويّة في النّصّ.

بعد أن تكشّفت جدليّة الأنا والآخر في الرّواية بوصفها أفقًا يكشف هشاشة الذّات ويضعها في مواجهة اختبار مستمرّ، يتّضح أنّ هذا الصّراع لا يُترجم فقط عبر حضور الغريب أو غياب القريب، بل يجد تعبيره الأعمق في الحبّ نفسه. فالعاطفة في "شارع العشّاق" ليست مجرّد خلفيّة لتوليد التّوتّر الدّراميّ، بل هي المعادل الرّمزيّ لصراع الهويّة. الحبّ هو اللّغة التي تصوغ بها الشّخصيّات علاقتها بالمكان وبالآخر معًا: غياب الخاتم، غياب الحبيب، إغواء الغريب – كلّها ليست تفاصيل عاطفيّة فحسب، بل شفرات سيميائيّة تعيد إنتاج سؤال الانتماء. ومن هنا يصبح الحبّ المحور الثّالث في تحليل الرّواية، لا باعتباره موضوعًا وجدانيًّا، بل بوصفه تمثيلًا للهويّة الجمعيّة.

ثالثًا- الحبّ:استعارة للهويّة

يحتلّ الحبّ في "شارع العشّاق" موقعًا محوريًّا، لكنّه لا يظهر كتجربة وجدانيّة فرديّة أو كتقليد حكائيّ مألوف، بل يتجلّى بوصفه ميدان اختبار للهويّة. فكلّ علاقة عاطفيّة في النّصّ مشروطة بسؤال الانتماء، وكلّ تردّد أو انجذاب أو غياب هو انعكاس مباشر للأزمة التي تعيشها الجماعة المسيحيّة في مادبا.

غياب الخاتم: هذه العلامة الصّغيرة على إصبع ماريا تختصر مأزق النّصّ. الخاتم هو الرّمز الاجتماعيّ والكنسيّ للارتباط الكامل، وغيابه يعني غياب الارتباط أو اكتمال الانتماء. بهذا يتحوّل إلى استعارة عن الهويّة نفسها: هويّة لم تكتمل، ولم تجد شرعيّتها بعد.

الحبّ عبر المسافة (حنّا): علاقة ماريا بحنّا، المهاجر إلى لندن، تعكس هشاشة الانتماء المؤجّل. إنه حبّ مشدود إلى الغياب، قائم على التّواصل الافتراضيّ لا الحضور الجسديّ. وكما أن الجماعة المهاجرة تبقى مرتبطة بوطنها من بعيد، تبقى ماريا مرتبطة بحنّا من دون أن يتحقّق هذا الارتباط فعليًّا.

الحبّ في الحضور (فرانسوا): في المقابل، يشكّل فرانسوا اختبارًا من نوع آخر. فهو الغريب الحاضر بجسده، المثير للإغواء والرّيبة معًا. العلاقة معه ليست استمرارًا للهويّة، بل تهديد لها: إذ يطرح السّؤال عن حدود الانفتاح على الآخر، وعن مدى قدرة الذّات على الاحتفاظ بخصوصيّتها في ظلّ إغراء الآخر واختلافه.

من هنا، يصبح الحبّ في النّصّ مرآة كبرى لصراع الجماعة: بين غياب الحبيب/المهاجر وحضور الغريب/المختلف، تقف الذّات في حالة تردّد وجوديّ. إنها لا تستطيع أن تحسم أمرها بسهولة، لأنّ كلّ خيار هو انعكاس لمصير هويّة كاملة: فاختيار الغائب هو تمسّك بالذّاكرة، واختيار الحاضر هو انفتاح على خطر الذّوبان.

إنّ هذا البناء يجعل من الحبّ استعارة شاملة للانتماء: ليس مهمًّا من تحبّ ماريا بقدر ما هو مهمّ كيف تُعبّر علاقاتها عن مصير الجماعة التي تنتمي إليها. فالحبّ هنا يعادل الوطن، والغياب يعادل الهجرة، والإغواء يعادل التّهديد الثّقافيّ. الرّواية بذلك تؤكّد أنّ الهويّة لا تُختبر فقط في الطّقوس أو في المكان، بل أيضًا في أكثر التّجارب الإنسانيّة خصوصيّة: في الحبّ ذاته.

إذا كان الحبّ في "شارع العشّاق" قد مثّل تجربة فرديّة تحمل في طيّاتها صراع الانتماء، فإنّ الرّواية لا تكتفي بهذا البعد الشّخصيّ، بل تُعيد توسيع الدّائرة لتُظهر أنّ الجماعة تُعيد إنتاج ذاتها عبر ما هو أشمل من العاطفة الفرديّة: عبر الطقوس الجمعيّة والرّموز الثّقافيّة.

فكما يتردّد قلب ماريا بين الغائب والحاضر، يتردّد قلب المدينة بين الذّاكرة والغياب. ومن هنا يصبح الطّقس، بكلّ ما يحمله من بعد شعائريّ وتاريخيّ، الوسيلة الأكثر قوّة لتثبيت الهويّة في وجه الزّمن، بينما تتحوّل الرّموز المادّيّة (الطّعام، الزّيّ، الموسيقى، المسرح) إلى لغة صامتة تعلن أنّ الجماعة ما زالت قائمة. بهذا المعنى، يفتح النّصّ أفقًا أوسع: من الحبّ الذي يختبر الفرد إلى الطّقس الذي يؤسّس الجماعة.

رابعًا- الطّقس والرّمز: مقاومة النّسيان

الرّواية غنيّة بشبكة من الطّقوس التي تشكّل صلب الحياة الجمعيّة للمسيحيّين في مادبا. هذه الطّقوس ليست مجرّد تفاصيل إثنوغرافيّة، بل هي آليّات رمزيّة لإعادة إنتاج الجماعة وضمان استمرارها في مواجهة التّآكل الدّيموغرافيّ.

1- الطّقوس الدّينيّة
تُستحضر مناسبات مثل أحد الشّعانين، خميس الأسرار، الجمعة الحزينة، قداديس الميلاد والقيامة. حضور هذه المناسبات في النّصّ ليس حضورًا وصفيًّاً فحسب، بل هو إعلان سرديّ بأنّ الجماعة ما زالت حاضرة في المكان. الطّقس هنا يتحوّل إلى زمن متكرّر يخلق استمراريّة تاريخيّة، وكأنّ الرّواية تقول إنّ الهويّة لا تتجلّى في خط ّمستقيم من الماضي إلى الحاضر، بل في تكرار الطّقس الذي يوحّد الأجيال.
فأطباق مثل المنسف والقراص لا تُذكر لتزيين السّرد، بل تتحوّل إلى لغة هويّة. المنسف في العيد ليس مجرّد طعام جماعيّ، بل هو نصّ اجتماعيّ يعيد تأكيد الرّوابط، ويؤدّي دورًا شبيهًا بالقدّاس: الجميع يشارك، والجميع يأكل، والجميع يجد نفسه جزءًا من الجماعة. حتّى القراص – وهو خبز تقليديّ – يُقدَّم كرمز للذّاكرة المتوارثة التي تُعيد إنتاج الانتماء عبر الذّائقة.

كذلك تُبرز الرّواية حضور الفرق الكشفيّة وعزفها في المناسبات الدّينيّة. هذا العزف ليس عرضًا فنّيًّا فقط، بل فعل جماعي يعيد إنتاج صورة الجماعة أمام نفسها وأمام الآخرين. إنّ الكشّافة هنا ليست مؤسّسة شبابيّة فحسب، بل جهاز رمزيّ يربط الأجيال بالحضور الكنسيّ والاجتماعيّ.

حتّى النّشاطات المسرحيّة في المدارس تُستعاد في النّصّ كجزء من الذّاكرة الجمعيّة. المسرح يعمل كمنصّة رمزيّة لإعادة سرد الحكاية، ولتذكير الجماعة بذاتها. وهكذا، يصبح الفنّ نفسه امتدادًا للطّقس الدّينيّ والاجتماعيّ، أي وسيلة أخرى لإعادة إنتاج الهويّة.

في الواقع، يُظهر تحليل الطّقوس والرّموز في "شارع العشّاق" أنّ الرّواية لا تراهن فقط على العاطفة أو المكان لحفظ الهويّة، بل على التّكرار الجمعيّ للشّعائر والرّموز. الطّقس هنا يعمل بوصفه ذاكرة متجدّدة، والرّمز بوصفه جسرًا بين الماضي والحاضر. فكما أنّ الحبّ الفرديّ يختبر الانتماء الشّخصيّ، يقوم الطّقس بتثبيت الانتماء الجمعيّ. وبذلك تكتمل المعادلة: المكان يوفّر الأرضيّة، والأنا والآخر يفتحان أفق الصّراع، والحبّ يكشف القلق الفرديّ، والطّقس يعيد إنتاج الجماعة ويمنحها القدرة على الاستمرار.

بعد أن كشفت الرّواية عن قوّة الطّقس والرّمز في إعادة إنتاج الجماعة وتثبيت حضورها، يتّضح أنّ هذه الطّقوس لا تعمل بمعزل عن البنية السّردية واللّغويّة، بل تجد انعكاسها المباشر في شكل النّصّ ولغته. فإذا كان الطّقس يكرّس التّكرار والذّاكرة، فإنّ اللّغة نفسها تكتب بهذا الإيقاع، وإذا كانت الرّموز تحفظ الانتماء، فإنّ البنية السّرديّة تترجمها في فسيفساء لغويّة تجمع بين الحميميّ والتّوثيقيّ، بين الاعتراف الشّخصيّ والأرشفة الجمعيّة. ومن هنا يصبح من الضّروريّ الانتقال إلى تحليل اللّغة والبنية، لنرى كيف أنّ الشّكل الفنّيّ ليس مجرّد وعاء للمضمون، بل هو جزء من إنتاج الهويّة نفسها.

خامسًا- اللّغة والبنية: فسيفساء النّصّ

تقوم اللّغة في "شارع العشّاق" على ازدواجيّة واضحة: فهي من جهة لغة اعترافيّة، شفّافة، مباشرة في مقاطع الحوار والمونولوج الدّاخليّ، ومن جهة أخرى لغة موسوعيّة، توثيقيّة، تفيض بالأسماء والوقائع والتّواريخ. هذه الثّنائيّة هي خيار واعٍ أرادته الكاتبة، وهو يوازي بنية المدينة نفسها: مادبا الفسيفسائيّة حيث تتجاور الأحجار الصّغيرة لتشكّل لوحة متكاملة.

تظهر اللّغة الاعترافيّة خصوصًا في خطاب ماريا، حيث البساطة والشّفافية تعكسان الطّابع الحميميّ للعاطفة. هذه اللّغة تجعل القارئ قريبًا من التّجربة الوجدانيّة، لكنّها أيضًا تكشف عن التّردّد والقلق والغياب. الاعتراف هنا ليس مجرّد تقنيّة سرديّة، بل هو وظيفة وجوديّة: الذّات لا تُعرّف نفسها إلّا عبر قولها المباشر، حتّى ولو كان مرتبكًا أو ناقصًا.

في مقابل ذلك، نجد استطرادات مطوّلة حول تاريخ الكنائس، أسماء الكهنة، تفاصيل المناسبات، وتاريخ الكشّافة والمسرح. هذه اللّغة تخرج عن التّخييل لتلامس أرشفة الواقع. قد يُظنّ أنّها تُبطئ السّرد، لكنّها في الحقيقة تؤدّي دورًا أنثروبولوجيًّا: فهي تحفظ ما يتهدّد بالزّوال، وتحوّل الرّواية إلى أرشيف سرديّ يقاوم النّسيان.

كما يتشكّل النّصّ من مقاطع قصيرة تتجاور كما تتجاور الأحجار في اللّوحة الفسيفسائيّة. ليست هناك حبكة صاعدة تقليديّة بقدر ما هناك فسيفساء من المشاهد والأصوات. هذا البناء يعكس رؤية الرّواية للعالم: الهويّة لا تتأسّس على خطّ مستقيم من الأحداث، بل على تراكم الشّظايا والذّكريات والطّقوس التي تشكّل معًا لوحة أكبر.

تمامًا كما أنّ الطّقوس تُعيد إنتاج الجماعة عبر التّكرار، تفعل اللّغة في الرّواية الشّيء نفسه: تكرار أسماء الأمكنة، تفاصيل الطّقوس، وحتّى الأطعمة، ليس مجرّد حشو بل هو بناء إيقاعيّ. فمن خلال اللّغة يعيش القارئ فعل التذكّر الجمعيّ.

يتّضح ممّا سبق أنّ نوال القصّار لا تفصل بين الشّكل والمضمون: البنية السّرديّة نفسها تتحوّل إلى ممارسة هويّة. فكما يحفظ الطّقس الجماعة في الواقع، تحفظ اللّغة الجماعة في النّصّ. الاعتراف الفرديّ يلتقي بالتّوثيق الجمعيّ، والحميميّ ينصهر في الأرشيفيّ، لتنشأ لغة مزدوجة تؤدّي وظيفة جماليّة وأنثروبولوجيّة في آن واحد. إنّها لغة تُشبه مادبا نفسها: بسيطة، مشبعة بالذّاكرة، ومهدّدة في الوقت نفسه.

عبر تتبّعنا لبنية الرّواية، من المكان الذي يتكلّم بلسان الهويّة، مرورًا بجدليّة الأنا والآخر، وصولًا إلى الحبّ بوصفه استعارة للانتماء، ثمّ الطّقس والرّمز باعتبارهما مقاومَين للنّسيان، وأخيرًا اللّغة التي تحاكي بفسيفسائيّتها تركيب المدينة نفسها، يتّضح أنّ "شارع العشّاق" ليس نصًّا متفرّق المحاور، بل نصّ متكامل. كلّ عنصر سرديّ لا يعمل في عزلة، بل يتضافر مع العناصر الأخرى لبناء أطروحة واحدة: إنّ الهويّة المهدّدة يمكن أن تُصان وتُعاد صياغتها من خلال الأدب نفسه.

استنادًا إلى ما سبق، تكشف رواية "شارع العشّاق" عن نصّ يتجاوز كونه حكاية عاطفيّة ليتحوّل إلى وثيقة أدبيّة-أنثروبولوجيّة. المكان فيها ليس مسرحًا بل بطل أوّل، يفرض شروطه على الشّخصيّات ويعيد تشكيل مصائرها. جدليّة الأنا والآخر تُظهر أنّ الهويّة لا تتحدّد في عزلة بل في مواجهة مستمرّة مع الغياب والحضور، مع المهاجر والغريب. الحبّ، من جانبه، ليس تجربة وجدانيّة بل استعارة كبرى للاعتراف والانتماء، حيث الخاتم والغياب والإغواء تتحوّل إلى شفرات لهويّة قلقة. الطّقوس والرموز تعمل كذاكرة جماعيّة متجدّدة تعلن بقاء الجماعة رغم تقلّصها، فيما اللّغة والبنية تسجّلان هذه الذّاكرة في نصّ فسيفسائيّ يجمع بين الاعتراف الفرديّ والأرشفة الجمعيّة.

بهذا المعنى، تقترح الرّواية طرحًا واضحًا: الأدب قادر على أن يكون مكانًا بديلًا وهويّة مضادّة للنّسيان. فمادبا التي تتضاءل ديموغرافيًّا تبقى حيّة في النّصّ، والهويّة التي يهدّدها الغياب تستعاد عبر السّرد. نوال القصّار تضع القارئ أمام تجربة تكشف أنّ وظيفة الأدب ليست المتعة الجماليّة وحدها، بل الحفظ والتّمثيل والمقاومة أيضًا. وهكذا تصبح "شارع العشّاق" أنموذجًا للرّواية الأردنيّة التي تُزاوج بين الجماليّ والأنثروبولوجيّ، وتعيد الاعتبار للأدب بوصفه أداة بقاء وذاكرة متكلّمة.

* أستاذة اكاديمية ،شاعرة وناقدة من لبنان





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :