الأنظمة والسياسات ترسخ القيم والثقافات
معتز عبدالقادر عساف
22-09-2025 03:53 PM
القوانين والأنظمة والسياسات ليست مجرد نصوص مكتوبة على الورق أو أدوات رقابية لجمع الغرامات أو فرض العقوبات، بل هي في جوهرها رسائل ثقافية عميقة تحمل قيمًا وأفكارًا تُترجم إلى سلوكيات يومية، وتشكل وعي الناس بما هو مقبول وما هو مرفوض.
عندما تُصاغ السياسات بوضوح، وتُطبق بعدالة وصرامة، فإنها لا تعمل فقط على تنظيم حياة الأفراد، بل تخلق ثقافة انضباطية إيجابية تمتد آثارها إلى المجتمع بأكمله، لتصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي والسلوك الجماعي. أما عند غياب هذه السياسات، أو تطبيقها بشكل ضعيف ومتعسف، فإن الفوضى واللامبالاة تجد طريقها بسهولة إلى حياة الناس، فتتسع دائرة السلوك السلبي لتؤثر على المجتمع ككل، ويصبح الانضباط مجرد شعار بلا مضمون.
القوانين لا تهدف فقط إلى تحصيل الغرامات أو فرض العقوبات، بل تصنع على المدى الطويل ثقافة عامة تحدد طبيعة تعامل الأفراد مع النظام، إما نحو الالتزام والانضباط، أو نحو الفوضى واللامبالاة. كما ان القيم ليست شعارات توضع على الجدران، ولا خطابات تُلقى في المناسبات الرسمية، بل هي سلوكيات تُغرس تدريجيًا في حياة الأفراد اليومية من خلال سياسات واضحة، وممارسات عادلة، وأنظمة تُطبق بلا استثناء.
جوهر أي مجتمع منظم يقوم على ما يترسخ في وعي مواطنيه من قيم، وهذه القيم لا تظهر فجأة، بل تُبنى تدريجيًا عبر إشارات يومية وقواعد تُمارس باستمرار وتُطبق على الجميع بشكل متناسق، بحيث تتحول من مجرد فكرة إلى سلوك ملموس يعيش معه الناس يوميًا.
قبل نحو خمس سنوات، عاصرت مثالًا حيًا قدمته إمارة أبو ظبي على كيفية استخدام الأنظمة لترسيخ قيمة الانضباط. ففي معظم دول العالم، من الشائع أن يُمنح السائقون هامشًا إضافيًا للسرعة قد يصل إلى عشرة أو خمسة عشر كيلومترًا فوق الحد المعلن، بحيث لا تُحرر المخالفة إلا بعد تجاوزه، ما يرسخ ضمنيًا ثقافة تقول إن القانون يمكن تجاوزه قليلًا دون عواقب مباشرة. أما في أبو ظبي فكانت الرسالة مختلفة تمامًا؛ فقد تم تعديل النظام ليصبح الحد الأقصى للسرعة هو نفسه المعلن، بلا أي استثناء، وتطبق المخالفات بدقة على جميع السائقين، بحيث تُعتبر أي زيادة في السرعة عن الحد المسموح مخالفة تستوجب تحريرها.
لم يكن الهدف من هذا الإجراء زيادة الغرامات أو تشديد العقوبات، بل ترسيخ ثقافة واضحة في وعي الجميع تقول إن القانون لا يُساوَم عليه، ولا يجوز تجاوزه حتى بكيلومتر واحد، مهما كانت الظروف أو المبررات..هذا القرار البسيط يحمل بُعدًا ثقافيًا عميقًا، إذ يرسّخ في وعي السائقين أن القانون ليس مساحة للتفاوض أو الاجتهاد الشخصي، وأن الالتزام به يجب أن يكون كاملًا لا منقوصًا.
أما في الأردن، فالمشهد مختلف، حيث يواجه المجتمع تحديات واضحة في ترسيخ قيم الانضباط والاحترام من خلال السياسات والممارسات العادلة. من أبرز الأمثلة غياب التخطيط الواضح للمسارب في كثير من الشوارع، حيث يجد السائق نفسه أمام شارع يمكن أن يسير فيه بمسربين أو ثلاثة، أو حتى بلا أي تنظيم، ما يؤدي إلى التداخل العشوائي بين المركبات. في هذه الحالة، يعتمد كل سائق على حكمه الشخصي بدلاً من الالتزام بالنظام، ما يرسخ ضمنيًا رسالة تقول إن التنظيم والقوانين ليسا ضروريين. مثال آخر هو عدم احترام الآخرين عند الإشارات الضوئية أو في المسارب، حيث يتجاوز بعض السائقين المركبات المنتظرة وكأن النظام مجرد "إرشاد" يمكن تجاوزه بسهولة.
هذه الممارسات اليومية، رغم بساطتها الظاهرة، تترك أثرًا كبيرًا على المجتمع، فهي تعكس تجاهل حقوق الآخرين والأنظمة، وتغذي شعورًا بعدم المساءلة، ويظهر ذلك لاحقًا في سلوكيات مشابهة في جوانب أخرى من الحياة العامة، مثل الالتزام باللوائح والقوانين المختلفة.
الفرق بين التجربتين يعكس حقيقة مهمة: النظام لا يُبنى بالقوانين المكتوبة وحدها، بل من خلال قيم محددة وثقافة مدروسة تُرسخ من خلال رسائل ضمنية تُبنى يوميًا في وعي الأفراد. في أبو ظبي، الرسالة كانت واضحة: "لا يوجد تجاوز للقانون". أما في الأردن، فالرسالة الضمنية هي: "القانون مرن ويمكن تجاوزه"، وما يترتب على ذلك من سلوكيات يومية يعكس حالة الفوضى وعدم الالتزام.
من الأدوات الفاعلة لمعالجة السلوكيات السلبية إشراك المجتمع نفسه في الرقابة. عندما يدرك المواطن أن مخالفاته يمكن توثيقها من أي شخص، وأن الجهات المختصة ستتعامل معها بجدية، يبدأ بفهم أن النظام يحمي المجتمع كله، لا الشرطة فقط. هنا تتحول الثقافة من فردية تبحث عن الالتفاف على القانون إلى ثقافة جماعية تؤمن بأن القانون وُضع ليُحترم، وأن الالتزام به هو جزء من الهوية المجتمعية.
الأنظمة، مهما بدت بسيطة، هي أدوات لتشكيل ثقافة المجتمع. مخالفة بسيطة في أبو ظبي، مثل رمي عقب سيجارة، ليست مجرد ضبط بيئي، بل رسالة واضحة أن النظافة والمسؤولية جزء من الثقافة العامة. في المقابل، عندما لا تُعالج المخالفات اليومية في الأردن، سواء في تجاوز الدور عند الإشارات أو رمي النفايات، فإن ما يُترسخ هو ثقافة التساهل والتطبيع مع السلوكيات السلبية. لذلك، فإن بناء مجتمع منضبط يحتم وجود منظومة متكاملة تشمل سياسات واضحة لا تحتمل التأويل، وأنظمة تُطبق بعدالة على الجميع دون استثناء، وممارسات يومية تبعث برسائل ضمنية بأن القانون قيمة وليست مجرد أداة ضبط، وتشجيع الرقابة المجتمعية ومكافأة كل من يساهم في تعزيز الانضباط.
القيم لا تُفرض بالقوة، بل تُزرع في النفوس من خلال تكرار الممارسات اليومية العادلة والمنصفة. وعندما يدرك المواطن أن النظام موجود لحماية الجميع، وأن احترامه يعكس احترامه لنفسه ولغيره، تصبح القيم جزءًا من السلوك الجماعي، لا مجرد شعارات مكتوبة.
السياسات والممارسات والأنظمة هي الأدوات الحقيقية لبناء مجتمع قائم على قيم راسخة. وإذا أردنا أن نرتقي بثقافة الانضباط والاحترام في الأردن، فعلينا التعلم من التجارب الناجحة، وإعادة صياغة رسائلنا اليومية لتقول بوضوح: القانون قيمة، النظام ثقافة، والالتزام بهما هو أساس التقدم والازدهار.
انطلاقاً من ذلك، يمكننا استخلاص عدة رسائل واضحة على مستويات عملية وسلوكية وثقافية وهي ان غياب النظام والتخطيط يرسخ الفوضى ويعزز ثقافة الاعتماد على الحكم الشخصي، وسلوك الأفراد يؤثر على المجتمع، فالتجاوز على حقوق الآخرين يغذي شعورًا بعدم المساءلة، والممارسات اليومية تبني الثقافة العامة سواء إيجابية أو سلبية، وعدم الالتزام بالقوانين له تأثير أوسع، فالفوضى المرورية ليست مجرد مشكلة تنظيمية، بل تعكس ضعف الانضباط العام ويؤثر ذلك على احترام اللوائح والقوانين في جوانب أخرى من الحياة.