facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الجامعة بين الضجيج والفعل: صناعة المعنى في زمن الشعارات


أ. د. هاني الضمور
23-09-2025 12:02 PM

في روايته الشهيرة الضجيج الأبيض، لم يكن دون ديليلو يتحدث فقط عن مجتمع مغمور في سيل لا ينتهي من المعلومات، بل كان يقدّم نبوءة عن مصير مؤسسات تنزلق تدريجيًا لتصبح واجهات صاخبة بلا مضمون. أصوات عالية، شعارات متكررة، حركة مستمرة، لكن بلا اتجاه واضح. وما نراه اليوم في عالم التعليم العالي يعكس إلى حد كبير هذا المشهد؛ جامعات تبدو كأنها غارقة في سباق محموم لإنتاج الضجيج أكثر من إنتاج الفكر.

لقد صار التغيير كلمة سحرية في أدبيات الجامعات. كل مؤتمر يتحدث عنه، وكل تقرير يضعه عنوانًا، وكل إستراتيجية جديدة ترفعه راية. غير أنّ هذا “التغيير” في كثير من الأحيان يظل شكليًا، يدور في فلك الأسماء والعناوين دون أن يمس جوهر الوظيفة التعليمية أو الفكرية. ومع تقلّص الدعم الحكومي، واشتداد المنافسة على الموارد، دخلت بعض الجامعات في سباق بقاء لا سباق تميّز. وكان السبيل الأسهل للبقاء هو إطلاق تخصصات هجينة تحمل أسماء براقة: الذكاء الاصطناعي للفنون، الريادة الرقمية في الإعلام، الإدارة الإبداعية للتقنيات الناشئة… تخصصات تتقاطع فيها العناوين أكثر مما تتقاطع فيها المناهج، وتستهدف اجتذاب الطلبة أكثر مما تستهدف بناء المعرفة.

بهذا تتحول الجامعة من فضاء لصناعة المعنى إلى مؤسسة تسويقية. التعليم لا يُقدَّم باعتباره قيمة تنويرية، بل باعتباره منتجًا استهلاكيًا. ولعلنا نلاحظ أن الضجيج المؤسسي يغطي على الأسئلة الكبرى: هل هذه البرامج الجديدة تعكس حاجة مجتمعية حقيقية؟ هل أُعدّت برؤية منهجية متكاملة؟ هل تسهم فعلًا في تطوير المجتمع؟ في كثير من الأحيان تكون الإجابة بالنفي. فالجامعة هنا لا تبتكر من داخل وعي ذاتي أو رؤية استراتيجية، بل تردّ على ضغوط التمويل أو تقارير الاعتماد الخارجي، فتأتي قراراتها كاستجابات متسرعة أشبه بالمسكّنات.

لكن على الجانب الآخر، ثمة جامعات فاعلة وناجحة تدرك أن التغيير الحقيقي ليس صدى للشعارات، بل هو قدرة على إعادة اكتشاف الذات في عالم متحوّل. هذه الجامعات حين تطلق تخصصًا جديدًا، فإنها تفعل ذلك بعد دراسات معمقة لاحتياجات المجتمع وسوق العمل، وبعد مراجعة دقيقة لطاقتها البشرية وبناها الأكاديمية. برامجها لا تأتي من باب التباهي، بل من باب الضرورة، وتُبنى على أساس معرفي متين، فتتحول إلى إضافة نوعية لا مجرد استعراض عناوين.

الفرق بين النموذجين يظهر جليًا في الممارسة. الجامعات التي تصنع الضجيج تفتخر بمسميات من قبيل “مركز التميز” أو “كلية المستقبل”، لكنها نادرًا ما تُراجع مناهجها بعمق، أو تُجري تحليلات جادة لأثر خريجيها في المجتمع، أو تُعيد النظر في جودة ممارساتها التعليمية. وفي المقابل، الجامعات الناجحة ترى أن المناهج ليست نصوصًا مقدسة ولا شعارات عابرة، بل هي مشروع يتجدد باستمرار، يتطور وفق متغيرات المعرفة والواقع. الخريج بالنسبة إليها ليس مجرد رقم في قوائم التوظيف، بل شاهد على مدى تحقق رسالتها. والبحث العلمي عندها ليس شرطًا للترقية الأكاديمية فقط، بل أداة لتوليد المعرفة وحل مشكلات المجتمع.

هنا يصبح التعليم رسالة تنويرية حقيقية، قادرة على صناعة وعي نقدي، وتزويد الأجيال بقدرة على مواجهة الغموض لا بالانبهار الساذج، بل بالتبصر والشجاعة. الجامعة الفاعلة توازن بين حاجتها إلى التمويل وواجبها في الحفاظ على الصدق الأكاديمي. تبحث عن موارد، نعم، لكن لا تجعلها غاية تتقدم على الإنسان والمعرفة. أما الجامعة التي تهرول وراء التمويل بلا بوصلة، فإنها تفرغ من روحها حتى لو ازدحمت قاعاتها بالطلاب وامتلأت ساحاتها باللافتات.

ولعل ما يميز الجامعة الناجحة أيضًا هو شجاعتها في طرح الأسئلة الصعبة بدل الاكتفاء بترديد الشعارات. فهي لا تخشى مراجعة سياساتها التعليمية أو مساءلة خططها البحثية، لأنها تدرك أن قوتها تنبع من النقد الداخلي قبل الإملاءات الخارجية. على عكس الجامعة الصاخبة التي تبني صورتها على الحملات الإعلامية، بينما تفتقد القدرة على الإصغاء إلى ذاتها وإلى مجتمعها.

إن المستقبل لن يُصنع بالضوضاء، ولن يُقاس عدد المؤتمرات أو حجم الحملات الترويجية. ما سيبقى هو الجامعات التي تُعلّمنا قيمة الصمت وسط الضجيج، وقدرة التركيز وسط التشويش، ووضوح الرؤية وسط الركام. هذه الجامعات هي التي تصنع التغيير لا صورته، وتنتج الجوهر لا الواجهة، وتزرع في أجيالها القدرة على أن يكونوا فاعلين في مواجهة عالم يزداد غموضًا.

وهكذا يصبح السؤال الحاسم: أي جامعة نريد؟ جامعة الضجيج التي تلهث بلا اتجاه، أم الجامعة الفاعلة التي تمسك بالبوصلة وتعيد صناعة المعنى؟ الجواب سيحدد ليس فقط مستقبل التعليم العالي، بل مستقبل المجتمع بأسره.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :