استقلالية الإعلام: حقيقة ممكنة أم وهم؟
لانا ارناؤوط
23-09-2025 12:29 PM
منذ نشأة الإعلام الحديث وهو يتأرجح بين كونه سلطة رابعة مستقلة تراقب وتكشف الحقائق وتخدم المصلحة العامة، وبين كونه أداة بيد السلطة السياسية والاقتصادية تفرض من خلالها رؤيتها وتحدد اتجاهات الرأي العام. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بإلحاح، خاصة في ظل ما نعيشه من أزمات متلاحقة، هو هل يمكن للإعلام أن يكون مستقلاً فعلاً، أم أن استقلاليته مجرد وهم جميل يتهاوى أمام تعقيدات الواقع؟
علاقة الإعلام بالدولة هي أول ما يكشف هذه المفارقة فالدولة تضع القوانين المنظمة للعمل الإعلامي بحجة حماية المصلحة الوطنية وضمان المسؤولية المهنية، غير أن هذه القوانين قد تتحول إلى قيود تحد من حرية التعبير وتضع سقفًا يصعب تجاوزه وهنا يظهر التناقض فالإعلام الذي من المفترض أن يراقب الدولة يجد نفسه محاطًا بتشريعات تجعل مراقبته مشروطة، مما يفرغ مفهوم الاستقلالية من جوهره. وفي الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أن غياب أي إطار قانوني قد يفتح الباب للفوضى الإعلامية ونشر التضليل، مما يجعل المسألة أكثر تعقيدًا.
أما الاقتصاد فيشكل بدوره عاملاً حاسمًا في تحديد ملامح استقلالية الإعلام فالصحف والقنوات والمواقع تحتاج إلى موارد مالية للبقاء، وهنا يدخل المعلن والمستثمر شريكًا غير مرئي في صناعة القرار التحريري حين تصبح الميزانية مرهونة بإعلانات الشركات الكبرى أو بتمويلات ذات طابع سياسي أو اقتصادي، فإن الخط التحريري يتأثر بالضرورة، ويجد الصحفي نفسه أحيانًا محاصرًا بين ضميره المهني ومتطلبات البقاء المالي وهنا يتضح أن الاستقلالية قد لا تنهار بفعل القانون فقط، بل بفعل الاقتصاد أيضاً وقد ناقش ملتقى الإعلام والاتصال بالأمس هذه الإشكاليات بعمق، حيث برزت مسألة الاستثمار الإعلامي ودوره في توجيه المحتوى فالإعلام المستقل يحتاج إلى موارد، لكن هذه الموارد غالبًا ما تحمل شروطًا غير معلنة تعيد إنتاج الهيمنة بطرق جديدة ومع ذلك، يمكن القول إن الاستثمار إذا ما ارتبط بالشفافية وبتشريعات عادلة، يمكن أن يكون وسيلة لتعزيز مهنية الإعلام لا لإضعافها.
في أوقات الأزمات تزداد أهمية هذا النقاش، إذ يُطلب من الإعلام أن يكون صادقًا ودقيقًا ومسؤولًا في نقل الحقائق، وأن يوازن بين حق الناس في المعرفة وبين متطلبات الأمن والاستقرار الأزمة تكشف دومًا حجم الفجوة بين الإعلام المستقل والإعلام الموجَّه، ففي لحظات الانفجار الاجتماعي أو السياسي يظهر الإعلام إما كجسر ثقة بين الدولة والمجتمع أو كأداة لزيادة الشكوك والاضطرابات ومن هنا فإن إدارة الأزمات لا تنفصل عن سؤال استقلالية الإعلام، بل إن الإعلام المستقل يشكل ركيزة أساسية لاحتواء الأزمات، لأنه يمنح الجمهور إحساسًا بأن الحقيقة تصلهم بلا تلاعب أو إخفاء.
إذن، استقلالية الإعلام ليست وهماً مطلقاً وليست حقيقة مطلقة، بل هي مساحة تفاوض دائم بين القانون والاقتصاد والاستثمار والضمير المهني إنها معركة مستمرة من أجل انتزاع أكبر قدر ممكن من الحرية ضمن قيود لا يمكن تجاهلها، ومعركة من أجل أن يبقى الإعلام صوت الناس لا صدى السلطة في النهاية، كلما كان الإعلام قادرًا على التوفيق بين متطلبات الاستقلالية وضرورات البقاء، كان أكثر قدرة على لعب دوره في إدارة الأزمات وحماية المجتمعات من الانزلاق نحو الفوضى أو فقدان الثقة.