اعتدنا نحن العرب – بل ربما البشر جميعًا – أن نغسل أيدينا من كل جريمة، من كل فعل صادم أو سلوك شائن يصدر من فرد منا، فنرفع شعارًا جاهزًا: "لا يمثلنا". عبارة قصيرة، لكنها ثقيلة بالمعاني؛ تختزل في داخلها آلية هروب جماعي من مواجهة أنفسنا، كأننا نريد أن نحيا في وهم مدينة فاضلة لا عيب فيها ولا شر، وأن الشر دائمًا طارئ من خارجنا أو استثناء لا يُحسب علينا.
لكن الحقيقة أبسط وأقسى: كل ما يصدر منّا يمثلنا، خيرًا كان أم شرًّا. يمثلنا الطبيب الذي يسهر الليالي لإنقاذ مريض، كما يمثلنا اللص الذي يقطع الطريق. يمثلنا الأديب الذي يخطُّ الجمال بالكلمات، كما يمثلنا السياسي الفاسد الذي ينهب ثروات الشعوب. يمثلنا الشهيد الذي يموت دفاعًا عن قضيته، كما يمثلنا القاتل الذي يطلق النار على أخيه.
خدعة النقاء الجمعي
حين نقول "لا يمثلنا"، فإننا نُلبس أنفسنا ثوب الطهارة الجمعية؛ كأننا مجتمع بلا عيوب، وكأن أخطاء الأفراد لا تعكس بيئةً احتضنتهم، ولا ثقافةً صنعتهم، ولا قيمًا متناقضة تغذّت فيهم. هذه الخدعة تريح الضمير لكنها تمنع المراجعة. فكيف سنواجه الفساد إن كنّا نصرّ على أنه "لا يمثلنا"؟ وكيف نُصلح العنف إن كنا نعتبره غريبًا عنّا؟
في واقع الأمر، الذي يسرق لم يأتِ من فراغ. الذي يقتل لم ينشأ خارج ثقافتنا. الذي يفسد لم ينحدر من كوكب آخر. هؤلاء أبناء بيئتنا ومدننا ومدارسنا ومساجدنا وكنائسنا وأحيائنا. هم نحن في جانب آخر، في مرآة لا نحب النظر إليها.
الإنسان كلٌّ متكامل
لا يمكن لأي مجتمع أن يبني تاريخه على صورة مثالية زائفة. نحن لسنا أفلاطونيين في "المدينة الفاضلة". نحن بشر: فينا الخير والشر، النور والظلام، الطهر والدنس. الاعتراف بهذه الثنائية هو الخطوة الأولى لفهم أنفسنا. أن نقول: نعم، السارق يمثلنا، القاتل يمثلنا، الزاني يمثلنا، كما يمثلنا العابد، والعالم، والمبدع، والرحيم.
لا يكفي أن نفتخر بالوجه الجميل وننكر الوجه القبيح. الجمال والقبح وجهان لعملة واحدة، هما مادة التاريخ وحقيقة الإنسان.
لماذا نرفض السيئ فينا؟
الرفض يأتي من خوف دفين: نخشى أن نُدان كمجتمع إذا اعترفنا أن الشر جزء منّا. نحب صورة الأمة الطاهرة، الملائكية، التي لا تخطئ. لكن الأمم التي صنعت الحضارات لم تنمُ بالنقاء، بل بالنقد والاعتراف والقدرة على مواجهة عيوبها. أوروبا لم تتجاوز ماضيها الاستعماري إلا حين اعترفت بجرائمها. أمريكا لم تبدأ في إصلاح نفسها إلا حين وقفت أمام مرآة العبودية والعنصرية. الاعتراف مؤلم، لكن الإنكار أشدّ فتكًا.
نحن… بما فينا
حين نقول "يمثلنا" فإننا لا نعني القبول أو التبرير، بل نعني المسؤولية. السارق يمثلنا لأنه خرج من بيننا، لكن تمثيله يلزمنا أن نُصلح بيئتنا التي أنبتته. القاتل يمثلنا لأنه عاش في ظل صمتنا أو فساد قوانيننا، والزاني يمثلنا لأنه كبر بين تناقضاتنا الأخلاقية، والفاسد يمثلنا لأنه صعد على أكتافنا وبسكوتنا.
لا يمكننا بناء تاريخ أو مستقبل ونحن نصرّ على "لا يمثلنا". هذه الجملة ليست بريئة؛ إنها جدار عازل بيننا وبين الحقيقة. نحن لا نحتاج إلى أوهام الطهر، بل إلى شجاعة مواجهة أنفسنا. أن نقول: نحن الخير ونحن الشر. نحن الصالح ونحن الطالح. نحن الجمال ونحن القبح.
عندها فقط نملك القدرة على الإصلاح، لأننا لن نهرب من ذواتنا، بل سنواجهها كما هي.