الجامعات وصناعة التافهين: أزمة عالمية تبحث عن توازن جديد
أ. د. هاني الضمور
27-09-2025 08:53 AM
لم تكن الجامعات عبر التاريخ مجرد مؤسسات لتلقين المعارف أو إنتاج بحوث باردة معزولة عن الحياة، بل كانت دائمًا فضاءات للتنوير ومنارات للعقل، تصوغ وعي المجتمعات وتطلق شرارات الإصلاح. فهي لم تكتفِ بتخريج موظفين، بل أخرجت مفكرين ومصلحين وقادة رأي تركوا أثرًا يتجاوز جدران الجامعة. لكن في عالم اليوم، تراجعت بعض المؤسسات الأكاديمية عن هذا الدور التنويري، فانفتح فراغ كبير سرعان ما ملأه صُنّاع التفاهة الذين اعتلوا المنصات الرقمية والإعلامية، وحوّلوا الشهرة السطحية إلى نفوذ يتجاوز أحيانًا نفوذ الأكاديميين أنفسهم.
غير أن الصورة ليست أحادية اللون، فليس من العدل أن نعمّم. هنا يأتي ما يمكن وصفه بـ”قانون الصيانة”: إذ رغم انسحاب جزء من الأكاديميا إلى صراع البيروقراطيات الداخلية ومطاردة التصنيفات الجوفاء، فإن هناك فئة من الأكاديميين حول العالم لا تزال تؤدي دورًا مؤثرًا فعليًا. هؤلاء نجحوا في كسر الحاجز بين الجامعة والمجتمع، ووجدوا لغة تصل إلى الجمهور العريض دون أن يفقدوا العمق أو يفرّطوا بالمعايير العلمية. بعضهم يقدّم محاضرات مفتوحة عبر الإنترنت تصل لملايين المتابعين، وآخرون يكتبون بانتظام في الصحافة أو يشاركون في النقاشات الكبرى حول قضايا ملحّة. هؤلاء هم من نريد أن يتسع حضورهم ويصبحوا النموذج المُلهم، لأنهم حين يقتحمون الساحة العامة بوعي فإنهم يعيدون الاعتبار للجامعة كمنارة للمجتمع.
لكن المشكلة أن بعض المؤسسات الأكاديمية انشغلت بمسارات شكلية، فحوّلت قيمة الأستاذ إلى مجرد أرقام في سباق النشر الأكاديمي أو الاحتفاء بتصنيفات سطحية مثل “أفضل ٢٪ من الباحثين في العالم”. مثل هذه القوائم قد تبدو لامعة، لكنها لا تُسمن ولا تُغني من جوع، فهي تعتمد على معايير كمية ضيقة مثل عدد الاقتباسات أو النشر في مجلات محدودة الانتشار، ولا تعكس بالضرورة أثر الباحث في حياة الناس أو في تطوير المعرفة الإنسانية. إنها أشبه بأوسمة شكلية تمنح شعورًا زائفًا بالإنجاز، فيما يبقى المجتمع بعيدًا عن ثمار البحث العلمي الحقيقي. وهكذا، بدل أن تكون الجامعة منبرًا للتفكير والنقد، أصبحت في نظر كثيرين مجرد جهاز بيروقراطي ينتج الشهادات ويطارد الاعترافات الشكلية.
هذه الفجوة صنعت شعورًا متناميًا بعدم الثقة بين المجتمع والأكاديميا. الناس لا يجدون في الجامعة صوتًا يعكس همومهم أو يفسر تحولات عالمهم بلغة قريبة منهم، بينما يجدون في المؤثرين حضورًا سريعًا ولغة سهلة ومباشرة، حتى لو كانت فارغة من القيمة. ومع مرور الوقت، باتت المعادلة مقلوبة: يُستقبل التافه بالتصفيق والانتشار، فيما يظل الأكاديمي الجاد في عزلة لا يسمع صوته سوى قلة من المتخصصين.
الإعلام بدوره أسهم في تفاقم الأزمة، إذ فضّل الطريق الأسهل: محتوى جدلي، سريع الانتشار، يضمن نسب مشاهدة عالية، بدلًا من فتح مساحات للنقاش الرصين والمعرفة الجادة. أما السياسات التعليمية في كثير من الدول فركّزت على الكم أكثر من الكيف، وعلى الإنتاجية الشكلية أكثر من المضمون، ما جعل الجامعة نفسها جزءًا من منظومة إنتاج التفاهة دون أن تقصد. والجمهور أيضًا مسؤول، لأنه حين يمنح وقته وانتباهه للتافهين، فإنه يساهم في ترسيخ مكانتهم، ويترك المساحة فارغة أمام من يفترض أن يكونوا قادة الفكر والرأي.
لكن لا تزال هناك فرصة لاستعادة التوازن. على المؤسسات الأكاديمية أن تعيد النظر في رسالتها، وأن تدرك أن مهمتها لا تنحصر في البحث داخل المختبر أو النشر في الدوريات المحكمة، بل تشمل الانخراط في قضايا المجتمع وتقديم المعرفة بلغة واضحة وبسيطة تصل إلى الجميع. عليها أن تتبنى استراتيجيات تواصل حقيقية مع الناس، عبر الإعلام والمنصات الرقمية، دون أن تعتبر هذه المساحات “دون مستواها”. إن إنتاج المعرفة لا يكتمل إلا إذا وصل إلى من يحتاجها، وإلا ظل حبيس الأدراج.
في المقابل، على المجتمع أن يستعيد ثقته بالعلم وأهله، وأن يتعلم التمييز بين القيمة الحقيقية والبريق الزائف. وعلى الإعلام أن يتحمل مسؤوليته في إعادة الاعتبار للأصوات الرصينة، وأن يفتح المجال أمام النقاشات العميقة التي تسهم في بناء وعي عام متوازن. أما السياسات التعليمية، فعليها أن توازن بين تشجيع البحث الأكاديمي المتخصص وبين تعزيز دور الجامعة كمؤسسة للتنوير والمشاركة المجتمعية.
إن العالم كله يقف اليوم أمام مفترق طرق. فإما أن تواصل بعض المؤسسات الأكاديمية انكفاءها فتزداد سطوة التافهين، وإما أن تستعيد الجامعات رسالتها عبر دعم الأكاديميين القادرين على الجمع بين الصرامة العلمية والتواصل المجتمعي. في الحالة الأولى سنخسر الجامعات ومعها المستقبل، أما في الحالة الثانية فسنفتح أفقًا جديدًا يوازن بين العلم والشهرة، بين القيمة والفراغ، وبين المشروع والضجيج.