من الميثاق الغليظ إلى الركام .. الطلاق يفتح أبواب الانهيار الاجتماعي
أحمد سعد الحجاج
30-09-2025 02:48 PM
لم يعد الطلاق في الأردن مجرد حدث عابر يُسجَّل في دفاتر المحاكم وينتهي أثره بانتهاء الجلسة، بل صار مشهدًا يوميًا متكررًا تتناوله ردهات القاعات الشرعية، حيث تصطف الملفات كقوافل من الألم، وتُسطر القرارات على أوراق صامتة، بينما القلوب مثقلة بالحزن والخذلان، والعيون ترقب سقوط أحلام عمرها سنوات. هناك، في تلك الردهات، يُسجَّل كل يوم انفصال جديد، وتُختم على أوراق رسمية، لكنها تفتح جروحًا عميقة في بيوت كانت يُفترض أن تكون ملاذًا للمودة والأمان، تاركة وراءها أطفالًا حائرين، ونساء في مواجهة مجتمع صارم، لا يرحم.
هذا الانفجار لم ينشأ دفعة واحدة، بل تشكّل تدريجيًا من شروخ دقيقة في جدران الأسرة، تراكمت حتى صار انهيارًا لا يُعوَّض. غاب الحوار، وذهبت لغة التفاهم، وتحولت العشرة إلى صراع صامت لا رحمة فيه، فتصدعت الأحلام الوردية التي حملها الزوجان إلى عش الزوجية عند أول صخرة من صخور الواقع، وأصبح الميثاق الغليظ مجرد جدل مرير وعهد يُنكث قبل أوانه. ثم جاءت الأزمات الاقتصادية لتزيد الطين بلة، فغدا البيت ساحة حسابات وديون، لا موئلًا دافئًا، ومع البطالة وانعدام الاستقرار المالي انهارت ركائز الأمان والشعور بالطمأنينة.
وزاد الأمر قتامة حين تسللت التقنية الحديثة إلى نسيج الحياة الأسرية، ففتحت وسائل التواصل أبواب الشك والغيرة والانشغال عن الشريك، بينما تدخلات الأهل أضافت وقودًا على نار الخلاف بدل أن تهدئها. وعلى الجانب الآخر، غاب الوعي الديني والقانوني بحقوق الزواج وواجباته، فاستُعمل الطلاق أحيانًا سلاحًا انتقاميًا لا وسيلة إصلاح، وصار الميثاق الغليظ لعبة في لحظة غضب.
قد يكون الطلاق في بعض الحالات ضرورة قصوى حين تستحيل العشرة وتتحوّل الحياة إلى جحيم لا يُطاق، لكنه في كثير الأحيان قرار متسرّع يولد في ساعة انفعال، ثم يورث خرابًا وندمًا لا يمحوه الدهر. وكم من بيت سقطت أعمدته بكلمة طائشة، وكم من طفل تاه بين ردهات المحاكم الشرعية، وكم من امرأة وجدت نفسها وحيدة أمام مجتمع صارم يحملها أوزارًا لم تجنها.
ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا إذا وعينا أن حماية الأسرة ليست شأنًا فرديًا فحسب، بل قضية وطنية تستلزم تضافر الجهود. وهنا يتجلّى الدور الحيوي لمؤسسات حماية الأسرة، فهي الدرع الواقية التي تحاول جمع شتات البيوت قبل سقوطها، وترميم الجدران قبل انهيار السقوف، وفتح نوافذ أمل في جدار تتناوبه الرياح. فتمكين هذه المؤسسات، وتوسيع صلاحياتها، وتفعيل دورها الإرشادي يمثل صمام أمان يعيد للأسرة بعضًا من توازنها، وللمجتمع شعورًا بالطمأنينة.
فالطلاق ليس مجرد حكم يُتلى في محكمة، ولا ورقة تُوقّع بختم رسمي، بل هو نزيف في عصب المجتمع، وشرخ في بنيانه، وجرح عميق يترك أثره في كل بيت وأزقة كل شارع. البيوت تُشيَّد بالمودة وتتهدّم بالإهمال، والمجتمعات تنهض حين تُصان الأسر وتترابط القلوب، لكنها تتهاوى إذا تحوّل الميثاق الغليظ إلى ركام، وأضحى البناء المتين أنقاضًا تتقاذفها العواصف. فلنُحسن البداية اختيارًا، ولنُحسن العشرة صبرًا ووفاءً، وإن اضطررنا إلى الفراق فلنُحسن الوداع، فإن كرامة الإنسان أسمى من أن تُهدر، واستقرار المجتمع أقدس من أن يُفرَّط فيه.