تدبّ الحروب كما تدبّ العواصف على المدن، تهبّ بعنفٍ تلتهم ما في طريقها ثم تهاجر. لكن هناك حروبًا لا تُقاس بمعايير الانتصار والهزيمة فحسب... هي حروبُ لا هدف لها إلا استنزاف الأحياء وإخراجهم من دائرة الزمن الهادئ إلى دوّامة من الخوف والفراغ.
أسميها هنا...بمرارةٍ متعمدة ( التوهان الأقسى): حروبُ اللاشيء تماما كطوفان الاقصى !
هذه الحروب قد تبدأ بأوهام كبرى: كرغبة مؤكدة في ذوبان الآخر داخل رغبات الداخل، أو كتراشق عنيف لعقد نفسية لم تُروَ. وإن نجحت في تحقيق بعض "الأهداف"، فغالبًا ما تكون أهدافًا دمويّة، تُترجم بالخسارة البشرية والشتات والقلوب المقطوعة. نذكر أمثلة تاريخية لا لننتصر في سردها، بل لنكشف عن القناع: حربٌ طويلةٌ بين جارتين في الأرض، كحربَي إيران والعراق، كانت نزيفًا لسنوات من التوهان، ثم احتلالٌ عبثيّ كاحتلال الكويت —حركةٌ لا تُنهي سوى جرحٍ طويلٍ ومشاهد من الدمار—، وأحداثٌ كثيرةٌ أخرى تحمل في طيّاتها نفس منطق الضياع.
التوهان الأقسى ليس مجرّد تشوهٍ سياسي؛ إنه حالة نفسية جماعية. حين يقرر الدم أن يُصبح غايةً بحد ذاته، وتتحوّل مفردات السياسة إلى مرايا لخيالات قديمة، تنهض الحرب كبديلٍ لعدم القدرة على الحوار. في هذا الفراغ، تُستبدل الكلمات المفيدة بأفعالٍ مدمّرة: "نحن من نغيّر التاريخ" تتحول إلى "نقترف العنف لكي نُذكر"، و"نحمي الحدود" تتحوّل إلى "نقطع الحياة". هنا تتكاثر الدوافع المتناقضة —الجبروت يختبئ خلف الخوف، والتعصّب يتغذى من الإحباط— فتنتج حروبًا لا تُسْأَل عن سببها، سوى عن خلل بصري وعقلي في رؤية الإنسان لنفسه وللآخر.
والأسوأ من ذلك أن التوهان يسقط البشرية في حلقةٍ مفرغة: يولد الحرب، فتنتج معاناة تُبرّر لاحقًا مزيدًا من الحرب. تتراكب الإصابات على ذاكرة الأجيال، وتصبح الأحقادُ تراثًا مُستعادًا في كل فصل لاحق. حين نصبح سجناء روايتنا الخاصة عن العداء، نصبح عاجزين عن قراءة علامات السلام حتى لو مرّت أمام أعيننا.
هكذا تتحول الرغبة في السلطة إلى كابوس طويل يُعيد تشكيل المدن والأسماء والوجوه.
لكن لنتساءل: لماذا يبدو أن البشر يريدون الحرب وفي الوقت نفسه يتطلّعون إلى السلام؟ هنا يظهر التناقض الوجودي: نحن كأفراد ومجتمعات نحمل داخلنا نزعتين متقابلتين. نزعةٌ لتأكيد الذات عبر العنف، ونزعةٌ لالتقاط أنفاس الحياة حين تتوقف الأعيرة. ربما لأن السلام يتطلّب شجاعةً أخرى: مواجهة الذوات، التنازل عن أوهام السيادة، تقاسم الخسارة والمعنى.
الحرب أسهل في بعض الأحيان لأنها تمنح جوابًا سريعًا —منطقًا مزيفًا ــ لكن السلام يتطلّب إعادة بناء للأفكار والذاكرة، وإعادة صياغة للهوية تُصاغ بالعطاء لا بالاقتطاع.
التوهان الأقسى هو انعكاس لخللٍ داخلي؛ لذا يكون الخلاص منه داخليًا أيضًا. لا يكفي أن نطلب من الخرائط أن تتغير، بل علينا أن نعيد رسم خرائطنا النفسية والثقافية: أن نعلم كيف نروي أطفالنا عن الآخر، كيف نُقيّم التاريخ بلا مبالغة، كيف نُبقي سؤال العدالة حيًا بلا تحويله إلى تبرير للعنف. الاعتراف بالخطأ، والاعتناء بالندوب، والبحث عن فضاءات مشتركة —كلها خطوات بسيطة لكنها عميقة في معناها، ليست سهلة لكنها ضرورية.
لا أدّعي أن الكلمات هنا كافية، ولا أن النداء هذا سيوقظ ضمائر الناس أو يُقنِع مَنْ فقدوا كل إنسانيتهم. لكنني أؤمن بأن النسيج الاجتماعي يتكوّن من لحظات صغيرة: مؤتمرٌ تُتبادل فيه المصالح بلا غش، مبادرة تضامنية تُعيد للناس طعم الثقة، قصيدة تُقرأ في شارعٍ عام فتذكّر الناس بأنهم بشر أولًا قبل أن يكونوا حروبًا. هذه اللحظات، متى تجمّعت، قد تشكّل مناعةً ضد التوهان.
ليست القضية أن الحرب تظهر بلا سببٍ خارجي، بل أن سببها الأكبر يختبئ في دواخلنا. نحن من نرسم حدود القلق، ونحن من نُعيد رسمها.
التوهان الأقسى قد يكون حاضرًا، لكنه ليس شهادة نهائية على قدرنا؛ بوسعنا أن نحوّل الضياع إلى نقاش، وأن نجعل من هذا السؤال رحلةً نحو السلام.
وإلى ذلك اليوم ، سنبقى في تناقض ، فنحن الحرب، ونحن من يتطلع للسلام.