facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




شنقليلة .. كُرنفال السياسة الأردنية


حمزة ابو نوار
04-10-2025 01:51 PM

في الأردن، إذا أردت أن تختصر الحالة العامة بجملة واحدة، فلا تقل "الوضع مش تمام"، ولا تقل "الله المستعان"، بل قل "شنقليلة". هذه الكلمة الأردنية الساخرة أصبحت مثل بطاقة هوية لجيلٍ بأكمله، جيل تعب من الانتظار، ومن الشعارات، ومن الاجتماعات التي تبدأ بعبارة "الوطن أولاً" وتنتهي بتعيين أحد الأقارب في لجنة جديدة. فالشنقليلة ليست مجرد نغمة لغوية عابرة، بل صرخة مكتومة في وجه واقع سياسي يصر على الدوران في الدائرة ذاتها منذ نصف قرن.

الشنقليلة الأولى: الأحزاب التي وُلدت من ورق

الأحزاب عندنا ظاهرة صوتية أكثر منها ظاهرة سياسية. تُعلن ولادتها في مؤتمر صحفي أنيق، ترفع فيه شعارات التغيير والإصلاح، ثم تبدأ بالمشاورات الجانبية حول من سيجلس في الصف الأول ومن سيكتب البيان الختامي. وبعد أسابيع قليلة، تذوب الحماسة وتتحول الاجتماعات إلى جلسات قهوة سياسية.

كما يبدو أن بعض الأحزاب تأسست لا لتصل إلى البرلمان، بل لتملأ استمارة التمويل الحزبي. فتتكاثر الأحزاب عندنا كما تتكاثر مجموعات "الواتساب" في موسم الانتخابات: كلها تتحدث عن المشاركة، لكن أحدًا لا يعرف من يشارك من. كل حزب هو جمهورية صغيرة فيها رئيس ومكتب تنفيذي ومستشار إعلامي، وأحيانًا فرقة دبكة إذا دعت الحاجة. والنتيجة؟ مشهد حزبي مرتبك، تائه بين الرغبة في المعارضة والخوف من المعارضة، وبين الحنين إلى السلطة والشك في الجمهور. أحزابنا تتكلم كثيرًا عن الديمقراطية، لكنها تخاف من الديمقراطية الداخلية أكثر مما تخاف من خصومها. الحزب عندنا يشبه فرقة موسيقية كلٌّ فيها يعزف لحنه الخاص، ثم يلوم القائد لأنه لم يصنع سيمفونية وطنية.

الشنقليلة الثانية: قوى الشد العكسي في مهمة وطنية

في كل مرة يطل فيها مشروع إصلاحي أو فكرة تحديث، تظهر فجأة قوى غامضة بوجوه مألوفة. يسميها الناس "قوى الشد العكسي"، وهي الترجمة الأردنية لعبارة "ارجع للخلف يا حبيبي". هذه القوى تملك قدرة خارقة على تعطيل أي مبادرة، وتبرع في تحويل أي فرصة إلى لجنة، وأي لجنة إلى تقرير، وأي تقرير إلى درج مغلق.

هؤلاء ليسوا ضد التقدم علنًا، لكنهم يخافون منه سرًا، لأن التقدم يعني أن المقاعد ستتحرك، والمنافع ستُراجع، والوجوه ستتغير. هم خبراء في التبرير، محترفون في إنتاج الأعذار الوطنية. شعارهم الدائم: "الوقت غير مناسب"، وكأن الزمن في الأردن عالق بين انتظار دائم وماضٍ لا يريد أن يغادر.

قوى الشد العكسي تتغذى على الخوف، وتعيش على فكرة أن أي تغيير حقيقي يهدد "التوازن". لكن الحقيقة أن هذا التوازن لم يعد إلا استقرارًا في مكان واحد: مكاننا نحن، حيث نقف منذ عقود نناقش ذات الشعارات بذات الأصوات، ونخرج بذات التوصيات.

الشنقليلة الثالثة: الكفاءة تحت الإقامة الجبرية

في وطن يملك طاقات بشرية هائلة، تصبح المفارقة الكبرى هي أن الكفاءة تُعد تهمة. إذا كنت ناجحًا أكثر من اللازم، يُنظر إليك بريبة. إذا كنت تملك فكرة جديدة، يُقال إنك "متحمس زيادة عن اللزوم". وإذا كنت تجرؤ على نقد الأداء، فهناك دائمًا من يذكّرك بعبارة "خليك إيجابي". محاربة الكفاءات ليست صدفة، بل سياسة غير معلنة لإبقاء الأمور تحت السيطرة. يتم تهميش المبدعين لأنهم لا يجيدون فن التملق، ويُقصى أصحاب الرؤية لأنهم لا يعرفون كيف "يدوزنون" كلامهم حسب الموجة. وهكذا يُفتح الباب واسعًا أمام ثقافة "المناسب أكثر من الأكفأ"، و"المجرب أكثر من المؤهل". نسمع عن مبادرات لتمكين الشباب، ثم نكتشف أن الشباب المقصودين هم أبناء الشباب السابقين. نقرأ عن تمكين المرأة، لكننا نرى ذات الوجوه في كل لجنة نسوية منذ عشرين عامًا. نُطالب بإشراك الأكاديميين والخبراء، لكن القرار يبقى بيد من يملكون أقدم دفتر عائلة لا أعمق فكرة.

الشنقليلة الرابعة: الخطاب الذي يعيش على الماضي

كل حزب عندنا يملك بيانًا تأسيسيًا أطول من كتاب تاريخ، لكنك لا تجد فيه خطة عملية واحدة. الخطاب الحزبي ما زال يعيش في زمن البلاغة أكثر مما يعيش في زمن المنجز. السياسي الأردني يحب الجمل الطويلة لأنها تمنحه مساحة للتأجيل. يقول لك: "نسعى لتكريس منهجية تشاركية تسهم في تعزيز الإطار الوطني الجامع..." فتشعر أنك دخلت في نفق نحوي لا نهاية له. الخطاب عندنا لا يريد أن يجرّب، لأنه يخاف أن يخطئ، والخوف من الخطأ في السياسة الأردنية أخطر من الخطأ نفسه. الكل يريد أن يبدو حكيمًا ومتزنًا، حتى لو كان ذلك على حساب الصراحة. وهكذا نعيش في زمن الكلمات الكبيرة والأفعال الصغيرة.

الشنقليلة الخامسة: الإصلاح كفكرة مؤجلة

الإصلاح عندنا مثل الباص الحكومي: لا نعرف موعد انطلاقه، ولا نعرف متى يصل. في كل مرحلة نسمع عن "انطلاقة جديدة"، ثم نكتشف أننا عدنا إلى نفس النقطة. نُحدّث التشريعات، لكننا نترك العقليات على حالها. نغيّر الشعارات، لكننا نحافظ على نفس أدوات التنفيذ. الحياة الحزبية، كما تُمارس اليوم، تُشبه مسرحية تتبدل فيها الأدوار دون أن يتبدل النص. كل مرة يظهر بطل جديد بشعار “التغيير من الداخل”، ثم يكتشف بعد فترة أن الداخل مُحكم الإغلاق. فينتهي الأمر بتشكيل حزب جديد، وشعار جديد، وشنقليلة جديدة. ورغم هذا العبث السياسي المتكرر، يبقى الثابت الوحيد هو أن جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله هو من قاد مسيرة الإصلاح الحقيقي منذ أكثر من عقدين، برؤية تتجاوز الشعارات إلى العمل الممنهج. جلالته طرح أوراقًا نقاشية تؤسس لديمقراطية فاعلة، ودولة قانون ومؤسسات، ومواطنة مسؤولة، وحياة حزبية حقيقية لا صورية. دعا جلالته إلى تجديد الفكر السياسي، وبناء أحزاب برامجية لا موسمية، وتشجيع مشاركة الشباب والنساء في القرار الوطني. لكن المشكلة ليست في القائد الذي رسم الطريق، بل في الركاب الذين يبدّلون المقاعد داخل الباص الإصلاحي، بينما السائق ماضٍ في المسار بثبات.

الشنقليلة السادسة: المواطن بين الفرجة واللامبالاة

أما المواطن، فهو البطل الصامت في هذه الرواية. لا يشارك كثيرًا، لكنه يرى كل شيء. يجلس أمام الأخبار، يهز رأسه، ويقول: “يا زلمة، شنقليلة”. عبارة واحدة تختصر كل مشاعر الإحباط واللامبالاة. صار الناس يعرفون اللعبة أكثر من لاعبيها، لذلك يكتفون بالمشاهدة. والمشكلة أن السخرية حين تطول تتحول إلى استسلام ناعم. الناس لم يعودوا يصدقون الأحزاب، لأنهم جربوا كثيرًا من “الوجوه المتغيرة في السياسات الثابتة”. صاروا يتعاملون مع الانتخابات كطقس موسمي لا كممارسة وطنية، ومع الوعود كإعلانات دعائية لا كبرامج عمل.
الشنقليلة السابعة: هل من أمل؟

ورغم كل هذا العبث، يبقى في المشهد بصيص أمل. فكل مرة نحاول فيها الإصلاح، حتى لو فشلنا، نتعلم شيئًا. ما زالت هناك أصوات تؤمن أن التغيير لا يأتي من الخارج، بل من وعي الناس. أن الحزب الحقيقي يبدأ من الفكرة لا من التمويل، ومن المبدأ لا من الشعارات. لكن هذا الأمل يحتاج إلى شجاعة الاعتراف: أن نخوض المعركة ضد التخلف لا ضد بعضنا، وأن نمنح الفرصة لمن يستحقها لا لمن يرفع يده أولًا.

يحتاج إلى أن نفهم أن "الولاء" لا يعني الصمت، وأن "المعارضة" لا تعني الشتيمة. يحتاج إلى أن نعيد تعريف السياسة بوصفها عملاً وطنيًا لا مهنة موسمية.

شنقليلة الختام: بين الضحك والوجع

في النهاية، تبقى “الشنقليلة” عنوانًا ساخرًا لحكاية جادة جدًا. نضحك حين نقولها، لكننا في أعماقنا نعرف أنها ليست نكتة. إنها مرآة تعكس ترددنا الدائم بين الحلم والخوف، بين الرغبة في التغيير والعجز عن تحمّل كلفته. الشنقليلة ليست مجرد كلمة، بل مزاج وطني عام، يختصر معادلة السياسة الأردنية: نريد أن نتحرك، لكننا نخاف من الحركة. نريد أحزابًا قوية، لكننا نخاف من القوي. نريد كفاءات تقود، لكننا نفضل المألوف. نريد التغيير، لكن بشرط ألا يتغير شيء. وهكذا تبقى "الشنقليلة" ليست فقط صدىً لغويًا، بل نشيدًا أردنيًا ساخرًا في زمن يحتاج إلى من يضحك بصدق، لا من يبتسم في الصور الرسمية.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :