الطريق بين غزة وخطة ترامب: من رماد الرواية إلى امتحان السياسة
أ. د. هاني الضمور
05-10-2025 08:03 AM
في رواية كورماك مكارثي الطريق، يسير أب وابنه وسط عالم منكوب، تحيط بهما الفوضى والدمار، ولا يملكان سوى بصيص نار صغير يحملانه في قلبيهما ليبقى الأمل قائمًا. تلك الصورة الأدبية تبدو اليوم وكأنها مرآة تعكس الواقع في غزة، حيث يفرض الاحتلال حصاره، وتُطلّ السياسة العالمية بخطط تُشبه الممرات الضيقة: طريق يُراد أن يقود إلى السلام، لكنه مملوء بالرماد والفخاخ.
خطة ترامب الأخيرة ذات العشرين بندًا، التي طُرحت في الخامس والعشرين من سبتمبر، جاءت بوصفها “خطة سلام” تُنهي الحرب. فهي تتحدث عن وقف لإطلاق النار، وعن إعادة الرهائن، وعن إعمار يعيد غزة إلى الحياة، لكنها في الوقت ذاته تشترط تفكيك المقاومة وتجريدها من سلاحها، ووضع القطاع تحت وصاية لجنة تكنوقراطية تعمل بإشراف خارجي. وهنا يتبدّى التناقض: الخطة التي تدّعي أنها طريق إلى الخلاص، تُصرّ على أن يسلك الفلسطينيون هذا الطريق وهم منزوعو الإرادة، محاصرون بشروط تعيد إنتاج الأزمة بدل أن تحلّها.
الرد الفلسطيني على هذه الخطة كشف عن لحظة فارقة. فالمقاومة لم تُغلق الباب نهائيًا، بل قدّمت موقفًا مركّبًا يجمع بين المرونة والتشدّد: قبول بعض البنود مثل الإفراج عن الأسرى أو إنشاء هيئة انتقالية فلسطينية مستقلة لإدارة غزة، لكنها رفضت بشكل قاطع ما يتصل بنزع السلاح أو فرض وصاية دولية أو جداول زمنية غير واقعية. هذا الرد بدا كأنه محاولة لحمل “النار” وسط الظلام: إبقاء الباب مفتوحًا أمام التهدئة والوسطاء، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية ومنع تصوير الفلسطينيين كطرف متنازل.
إلا أن القراءة الاستراتيجية تفرض الحذر. فالسيناريو الأسوأ حاضر دائمًا: مماطلة إسرائيلية في الانسحاب ووقف القتال، أو ضغوط أمريكية ودولية متجددة لانتزاع تنازلات إضافية. في هذه الحال قد يعود القتال أشد ضراوة، وقد يُستغل أي انهيار للاتفاق لتشويه صورة المقاومة وإضعافها سياسيًا. ومن هنا، لا بد من التعامل مع اللحظة بعقلانية مضاعفة: تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، كي لا يُترك ملف غزة ومستقبلها رهينة قرار فصيل واحد، بل يُدار في إطار مؤسساتي جامع يضم مختلف القوى. فالانقسام الداخلي هو الثغرة الأكبر التي قد تنفذ منها إسرائيل والولايات المتحدة لإضعاف الفلسطينيين وتحويلهم إلى أطراف متنازعة.
كما أن التجربة التاريخية تفرض ضرورة بناء شبكة ضمانات حقيقية قبل المضي في أي اتفاق. فإسرائيل بارعة في استخدام الاتفاقيات كأدوات تكتيكية، تلتزم ببعض البنود وتتنصل من أخرى. ولهذا يصبح إشراك الأمم المتحدة، ومصر، وقطر، والأردن، والدول العربية المؤثرة ضرورة قصوى، بحيث لا يُترك التنفيذ رهين حسن النوايا، بل يُربط بآليات عملية تضغط على إسرائيل عبر المساعدات والعلاقات الدبلوماسية. وعلى الأرض، يجب أن تستعد المقاومة لأسوأ الاحتمالات، وأن تحافظ على قدراتها الدفاعية، كي لا تُفاجَأ بانهيار الاتفاق وتفقد السيطرة قبل أن تضمن التزامات ملموسة من الطرف الآخر.
في الوقت نفسه، يُنتظر من القيادة الفلسطينية أن تستثمر البعد الإعلامي والدبلوماسي بذكاء. فكل إخفاق إسرائيلي يجب أن يُحوَّل إلى أداة ضغط، تُظهر للعالم أن الفلسطينيين التزموا وأبدوا جدية، بينما الطرف الآخر يراوغ ويُفشل مسار السلام. هذا التحويل السريع للخطاب قد يُعيد صياغة صورة المقاومة أمام الرأي العام الدولي، ويمنحها شرعية أكبر بدل أن تُجرّد منها. وداخليًا، لا بد من مصارحة الجمهور بأن القبول الجزئي ليس استسلامًا، بل خطوة تكتيكية لتخفيف النزيف وفتح الطريق أمام مكاسب لاحقة، مع التأكيد في الوقت ذاته أن ما يُعرض ليس تسوية نهائية بل محطة مؤقتة.
وهكذا، تتضح معادلة اللحظة: الفلسطينيون أمام طريق يشبه ذاك الذي رسمه مكارثي في روايته؛ طريق مُحاط بالرماد، لكن فيه شعلة صغيرة ترفض أن تنطفئ. الخطة قد تكون فخًا، لكنها قد تتحوّل أيضًا إلى فرصة إذا جرى تحصينها بثلاثة عناصر أساسية: وحدة القرار الوطني، شبكة ضمانات إقليمية ودولية تشارك فيها قوى محورية مثل مصر وقطر والأردن، واستعداد عملي لأسوأ السيناريوهات. فإذا تحقق ذلك، فإن ما فُرض على غزة قد يتحوّل من عبء إلى ورقة قوة جديدة.
إن الطريق ليس ما ترسمه بنود الورق، بل ما يختاره الناس أن يحملوه معهم. وغزة، مهما تكسرت حولها الجدران، ما زالت تحمل نارها في قلبها، نار الأمل والكرامة، رافضة أن تتحول إلى مشهد صامت في مسرحية الآخرين.