منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، حملت المدارس المسيحية في الأردن رسالةً تعليمية وإنسانية عميقة، تجاوزت الأطر الدينية لتغدو ركناً أساسياً في مسيرة بناء الإنسان الأردني. فبين جدرانها تربت أجيال، وتفتحت العقول على قيم الانضباط، واحترام الآخر، وحبّ المعرفة.
هذه المدارس، التي أنشأتها الكنائس والجماعات المسيحية في مدن الأردن وقراه، لم تكن مجرد مؤسسات تعليمية، بل كانت مشاريع نهضوية في مجتمعاتٍ كانت تخطو خطواتها الأولى نحو التعليم الحديث والتنظيم الاجتماعي.
منذ بدايات القرن العشرين و ما قبله ، انتشرت المدارس التابعة للروم الأرثوذكس واللاتين وغيرهم في مختلف أنحاء المملكة، من عمّان ومادبا والسلط وإربد، وصولاً إلى الكرك الزرقاء و العقبة. لم يكن هدفها التبشير أو الدعوة ، بقدر ما كان سعيها لتقديم تعليمٍ راقٍ ومنضبط في وقتٍ كان التعليم العام لا يزال في طور التأسيس.
فكانت هذه المدارس أول من أدخل اللغات الأجنبية، وأسس مكتبات مدرسية، وشجع الطلبة على البحث والقراءة والمسرح والموسيقى والأنشطة الاجتماعية.
ولعل مدينة مادبا تقدّم نموذجاً واضحاً لهذا الدور. فمدارس الروم و اللاتين ، أسهمت على مدار عقود في نهضة المدينة الفكرية والتعليمية. خرجت منها أجيال من المعلمين والأطباء والمهندسين ورجال الفكر والسياسة، وكان لها الفضل في تحويل مادبا إلى مدينة تزخر بالوعي والثقافة والانفتاح.
هذه المدارس في مادبا لم تكن مجرد مبانٍ ، بالرغم من جمالية الصورة القديمة التي تظهر مدينة مادبا خالية من العمران و لكن تتوسطها هذه المنارات ، بل مؤسسات شكلت روح المدينة الحديثة، جمعت أبناء المسلمين والمسيحيين في صفوفٍ واحدة، بلا تمييز، ولا نظرة دينية، بل برؤية تربوية إنسانية تهدف إلى تنشئة جيلٍ متعلمٍ وواعٍ.
ومن اللافت أن عدداً كبيراً من العائلات المسلمة في الأردن، كانت ولا تزال، تفضل إلحاق أبنائها بهذه المدارس، لما عُرف عنها من جودة تعليمية وانضباط إداري وأخلاقي. فالمسألة لم تُنظر يوماً من زاوية دينية، بل من زاوية تربوية بحتة ، و لطالما زخرت الذاكرة الشعبية بقصص عن راهبات يحفّظن الطلاب المسلمين الصلاة و قصصا أخرى تظهر رسالة هذه المدارس.
الآباء المسلمون وجدوا في هذه المدارس بيئةً آمنة تحترم القيم، وتغرس في الأبناء حب النظام والاحترام، والجدية في الدراسة، والانفتاح على العالم من دون المساس بالهوية أو الانتماء.
وإلى جانب التعليم الأكاديمي، أسهمت هذه المدارس في نشر ثقافة التطوع والخدمة المجتمعية، وفتحت أبوابها للأنشطة الثقافية والفنية والرياضية، فكانت ساحات لقاء بين أبناء المجتمع الواحد، ومختبراً للتعايش الذي يميز النسيج الأردني.
المدارس المسيحية في الأردن اليوم تواصل رسالتها بروحٍ متجددة، إذ دمجت التكنولوجيا في التعليم، وطورت مناهجها، وشاركت بفعالية في المبادرات الوطنية والتعليمية. وهي بذلك تؤكد أن رسالتها لم تكن يوماً محصورة بدينٍ أو طائفة، بل كانت وما زالت استثماراً في الإنسان، في علمه، وفي قدرته على بناء وطنٍ متماسكٍ ومتطور.
إن الفضل الكبير لهذه المدارس لا يقاس بعدد خريجيها فقط، بل في الأثر الذي تركته في بنية المجتمع نفسه، من حيث احترام النظام، والانفتاح على الآخر، والإيمان بأن التعليم هو الطريق الأسمى نحو النهضة. ومن مادبا إلى عمان والسلط، ومن الكرك إلى إربد، تظل هذه المدارس شاهداً على أن التربية الحقيقية لا تعرف حدود الدين، بل تتسع لكل من يؤمن بأن بناء الإنسان هو أقدس الرسالات.