الأردن العظيم صوت المروءة في زمن ارتجاف المواقف
أحمد سعد الحجاج
11-10-2025 09:44 AM
في السابع من أكتوبر عام 2023، اشتعلت شرارة الحرب في غزة، ودوّت أصوات المدافع في مشهدٍ سرعان ما تحوّل إلى طوفانٍ من النار والرماد. كانت ماكينة الحرب تدور بكل بطشها، تلتهم البيوت، وتطحن الأحلام، وتزرع الخوف في القلوب، لتعلن أن غزة تقف على خطّ النار وحيدةً في مواجهة آلةٍ لا تعرف الرحمة.
عندها، لم يكن الأردن متفرجًا ولا مراقبًا من بعيد، بل كان قلبًا يخفق في صدر الأمة، وضميرًا يفيض بالنجدة والإخلاص. بقيادة صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله ورعاه، تصدّر الأردن مشهد الموقف العربي والإنساني، رافعًا راية الحق، مدافعًا عن الشقيق الفلسطيني بصلابةٍ لا تلين. كان الموقف الأردني عنوانًا للشجاعة، إذ لم يعرف الحياد، ولم يتلكأ في نصرة المظلوم، ولم يتخلّ عن دوره التاريخي في الدفاع عن الإنسان قبل المكان.
إن الدم الذي نزف في غزة لم يكن دمًا غريبًا عن هذا التراب الأردني، بل كان امتدادًا للوجدان الواحد. فحين تسقط القذائف على بيت لاهيا، يتردّد صداها في السلط، وحين يتهدّم بيتٌ في دير البلح، تنكسر القلوب في الطفيلة، وحين يصرخ طفلٌ في غزة، ترفع أمٌّ في الكرك يديها إلى السماء، تبتهل وتقول: “اللهم كن معهم، فهم أهلنا ودمنا، إن أصابهم وجع، تألمنا وجعًا، وإن حاصرهم الجوع، انقبضت قلوبنا جوعًا.”
هكذا ذابت الحدود، واتحدت الجغرافيا بالعقيدة، وصار الوجع الفلسطيني وجعًا أردنيًا خالصًا.
وفي ذروة اللهيب، انطلقت الأوامر الملكية السامية لتُفتح السماء أمام قوافل الإغاثة الأردنية، تحملها أجنحة الكرامة من عمان إلى غزة، رغم العواصف والحصار. كانت الانزالات الجوية الأردنية تكتب في الأفق سطرًا جديدًا من البطولة، تُرسل الغذاء لمن جاع، والدواء لمن نزف، والكساء لمن تجمّد بردًا تحت الركام. لم تكن طائرات فحسب، بل رسائل حيّة تُعلن أن الشقيق لا يُترك في زمن الحرب، وأن الأردن إذا وعد، أنجز، وإذا قال، فعل.
وعلى الأرض، كانت المستشفيات الميدانية الأردنية في قلب القطاع دروعًا من إنسانيةٍ لا تنطفئ. هناك، تحت القصف، كان الطبيب الأردني يضمد الجرحى كما يضمد وطنه، يسهر على حياة الأطفال بعيونٍ امتلأت وجعًا وكرامة. كانوا جنودًا للرحمة، يقاتلون بالمشرط لا بالبندقية، ويثبتون أن الشرف لا يُقاس بعدد البنادق، بل بعدد القلوب التي تُنقِذ.
وفي خضمّ عالمٍ تتداخل فيه الحسابات وتُباع فيه المواقف في أسواق المصالح، ظلّ الأردن شامخًا بثباته، نقيّ الموقف، صافي النية، متمسّكًا بثوابته التاريخية: أن القدس لا تُساوم، وأن فلسطين ليست ملفًا سياسيًا، بل جزءٌ من هويةٍ لا تنفصم. لم ينحنِ للضغوط، ولم يُبدّل الموقف، بل ظلّ واقفًا كما عهدناه، يُشعل شموع الكرامة وسط العتمة، ويمنح الأمة درسًا جديدًا في أن الأصالة لا تُشترى، وأن القيادة الحقّة تُقاس بالفعل لا بالقول.
وهكذا أثبت الأردن، قيادةً وشعبًا، أنه حين تُدار ماكينة الحرب لتفتك بالحياة، هناك ماكينةٌ أخرى اسمها المروءة الأردنية، تدور في الاتجاه المعاكس لتُعيد للحياة نبضها، وللكرامة معناها. فالموقف الأردني لم يكن ردّ فعلٍ سياسيّ، بل فعل إيمانٍ أخلاقيّ، تصنعه يدٌ ملكيةٌ سامية، وتحتضنه قلوب الأردنيين الصلبة التي لا تعرف إلا الوفاء.
وفي زمنٍ تتبدّل فيه الموازين، وتتراجع فيه البوصلة عند كثيرين، بقي الأردن النبراس الذي لا يخفت، والموقف الذي لا يُشترى، والضمير الذي لا ينام. وحين يتكلّم الأردن، تُصغي العواصم، لأن كلمته ليست صدى، بل أصل الصوت، ولأن تاريخه ليس صفحةً تُروى، بل ميثاقٌ يُكتب في ضمير الأمة.
هذا هو الأردن
وذلك هو الملك عبدالله الثاني
وتلك هي العروبة حين يكتبها الأردنيون بماء الكرامة لا بحبر الكلام.