العجز الأخلاقي في الاكاديميا
أ. د. هاني الضمور
15-10-2025 11:50 AM
يُفترض أن يكون التعليم العالي مصنع العقول الحرة وميدان البحث عن الحقيقة. الجامعة ليست مجرد مؤسسة تمنح شهادات، بل فضاء لصناعة وعي نقدي يهيئ الأجيال لمواجهة الظلم والفساد والانحراف. غير أن الواقع الذي نعيشه اليوم يكشف أنّ الجامعات في كثير من بلداننا، بل وحتى على مستوى عالمي، أصابها ما يمكن أن نسمّيه “الغباء الأخلاقي”، حيث يتنازل الأكاديميون والمفكرون عن دورهم النقدي والشجاع، ويميلون إلى المهادنة أو التبرير، إرضاءً للسلطة أو للمجتمع أو حتى لمصالحهم الخاصة.
الأستاذ الجامعي الذي يُفترض أن يكون ضميراً يقظاً أمام الطلبة، يتحول في بعض الأحيان إلى موظف يكرر مقررات جامدة، أو باحث يسعى وراء النشر لأجل الترقيات، دون أن يمتلك الجرأة على تسمية المشكلات البنيوية في مجتمعه أو في جامعته نفسها. في لحظة الحقيقة، حين يكون عليه أن يرفع صوته ضد الفساد الإداري أو المحاباة أو تردي مستوى البحث العلمي، يختار الصمت بحجة “الواقعية” أو “الحفاظ على الاستقرار”. لكنه في العمق يمارس الغباء الأخلاقي، لأنه يعرف الخطأ ويتجاهله، ويدرك الظلم ويغطيه بمبررات شكلية.
لقد انعكس هذا الموقف على صورة الجامعة ودورها الاجتماعي. بدلاً من أن تكون الجامعة منارة للحرية الفكرية، أصبحت في بعض الحالات حاضنة للتطبيع مع الفساد والرداءة. الطالب الذي يدخل قاعات الدرس وهو يتطلع إلى رؤية أستاذه نموذجاً للشجاعة والاستقلالية، يجد أمامه شخصية حذرة، تحسب كل كلمة وتخشى كل موقف. والنتيجة أن الطالب نفسه يتعلم الدرس الخاطئ: أن الصمت أكثر أمناً من المواجهة، وأن التنازل عن المبادئ وسيلة للحفاظ على المكانة. وهكذا تتحول القيم الجامعية إلى انعكاس لثقافة المهادنة لا لثقافة الحرية.
لا يقتصر الأمر على العلاقة بين الأكاديميين وطلبتهم، بل يتجاوزها إلى مجال البحث العلمي. كثير من الأبحاث اليوم تُكتب لا لخدمة المعرفة أو المجتمع، بل لخدمة معايير شكلية تحددها مؤسسات التصنيف والتمويل. وعوض أن ينشغل الباحث بقضايا أمته ومشكلاتها، ينشغل بمطاردة فرص النشر في مجلات ذات معامل تأثير مرتفع، ولو كان موضوع البحث بعيداً كل البعد عن حاجات الواقع. وهنا يتجلى الغباء الأخلاقي في أبهى صوره: استبدال الرسالة الإنسانية للعلم بمطامح شخصية ضيقة، حتى لو كان ذلك يعني ترك المجتمع غارقاً في أزماته بلا حلول.
في مقابل هذا المشهد المربك، هناك نماذج قليلة لكنها مشرقة لأكاديميين قرروا كسر دائرة الصمت. هؤلاء يواجهون أحياناً تضييقاً أو إقصاءً، لكنهم يحافظون على معنى الكلمة الحرة، ويمنحون طلبتهم مثالاً عملياً على أن الجامعة ليست مكاناً للانحناء بل للوقوف. والتاريخ يثبت أن أثر هؤلاء، مهما بدا محدوداً في لحظته، يتضاعف مع الوقت ويصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية التي تحترم من وقفوا بصدق في وجه الرداءة.
إذا أراد التعليم العالي أن يستعيد مكانته الحقيقية، فلا بد أن يتخلص من هذا الغباء الأخلاقي الذي أصاب بعض نخبه. يجب أن تتحول الجامعة من مؤسسة بيروقراطية إلى ساحة للنقد الحر، وأن يعود الأستاذ الجامعي إلى دوره كضمير حيّ لا كموظف إداري. لا يمكن للمعرفة أن تزدهر في بيئة يخاف فيها الباحث من قول الحقيقة أو يخشى فيها الطالب من طرح السؤال. فجوهر الجامعة هو الشجاعة، والشجاعة هنا ليست بطولة خارقة، بل التمسك بالحقائق الأساسية مهما كانت كلفتها.
إن أخطر ما يواجه التعليم العالي اليوم ليس نقص التمويل ولا ضعف البنية التحتية فحسب، بل غياب الشجاعة الأخلاقية لدى بعض من يُفترض أن يكونوا حراسها. فإذا استمر هذا التواطؤ بالصمت أو المهادنة، فسيتحول التعليم العالي إلى آلة تنتج شهادات بلا فكر، وألقاباً بلا رسالة. أما إذا تحررت الجامعات من هذا الغباء الأخلاقي، فعندها فقط يمكن أن تستعيد دورها كمنارة للمجتمع، ومصنع للعقول القادرة على مواجهة المستقبل بشجاعة وكرامة.