وجع الجامعة الأمّ… حين يَتكسّر الهدوء على حِجارة الغضب
أحمد العتوم
20-10-2025 09:55 AM
قبل أيام، استيقظنا على خبرٍ لم نكن نودّ أن نسمعه، ولم نَكن نتوقع أن نراه في حرم الجامعة الأردنية، الجامعة الأمّ التي خرّجت أجيالًا من النخبة، وكانت دومًا رمزًا للعلم والانفتاح والوطنية، مُشاجرة طلابية واسعة اندلعت داخل أسوارها، لتتحول بين لحظةٍ وأخرى من خلافٍ فردي إلى ساحة اشتباكٍ تملؤها الصيحات والغضب والحجارة، مشهدٌ مؤلم، لا يليق بمكانٍ يحمل اسم الجامعة الأردنية، ولا يليق بشبابٍ يفترض أنهم جاؤوا ليبنوا المستقبل لا ليكسروا الحاضر.
في الفيديوهات والصور التي انتشرت، لم يَكن الوجع في العراك ذاته، بل في الرمز الذي انكسر: الجامعة التي كانت منذ تأسيسها بيتًا للوعي والعقل، تتحوّل فجأة إلى ساحة صراعٍ عبثيّ، كم هو موجع أن يتحول مدرج المعرفة إلى ساحة خصام! وكم هو مؤلم أن تتراجع لغة الحوار لتعلو مكانها لغة العنف والعصبية!
ما جرى ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو ناقوس خطر يدقّ في جدران التعليم الجامعي بأكمله، فالعنف لم يَعد سلوكًا فرديًا، بل ظاهرة تتغذى على الجهل والانغلاق والفراغ، وتَكسر هيبة المكان الجامعي وتشوّه صورته في عيون المجتمع.
الحدث، كما جاء في بيانات الجهات الرسمية، بدأ بخلاف بسيط بين طالبين، لكنه سرعان ما اتسع ليشمل عشرات الطلبة، وأسفر عن إصابات وتوقيفات تجاوزت الخمسين مشاركًا، لكن ما جرى لا يمكن أن يُختزل في أرقام أو بيانات، فالمسألة ليست في عدد المشاركين ولا في زمن الحادثة، بل في دلالاتها العميقة: كيف يُمكن أن ينفجر الغضب بهذه الصورة في مكانٍ يُفترض أنه مصنع للعقل والتهذيب والتنوير؟
لن نبحث عن كبش فداء، فالمسؤولية هنا جماعية: الجامعة مسؤولة حين لا تمنح طلابها مساحة كافية للتعبير والحوار، والطالب مسؤول حين يختار العنف وسيلةً للتعبير عن ذاته، والمجتمع بدوره مسؤول حين يزرع في نفوس أبنائه فكرة الانتماء الضيق بدل الانتماء للوطن الجامع، إن ما حدث في الجامعة الأردنية ليس حادثًا عابرًا، بل هو مرآة تعكس واقعًا يحتاج إلى وقفة صادقة، إلى مراجعة عميقة لثقافة الحوار التي تآكلت، وللوعي الطلابي الذي يَجب أن يُعاد بناؤه قبل أن نخسر معنى الجامعة نفسها.
والجامعة ليست قاعات ومحاضرات وامتحانات، بل بيئة حياة كاملة، تُشكّل شخصية الطلبة وتبني المواطنة الصادقة.
حين يغيب النشاط الثقافي، وتضعف المبادرات الطلابية، وتُختصر الجامعة في درجات أكاديمية باردة، يَتحول الحرم الجامعي إلى مساحة فارغة، يَسُهل أن تملأها العصبية بدل الفكر، والعنف بدل الكلمة، وهنا تكمن الخطورة: فالعنف لا يبدأ من لحظة الشجار، بل من لحظة الإهمال، حين يغيب الحوار، وتُترك الفراغات النفسية والفكرية دون توجيه.
إنّ ما حدث في الجامعة الأردنية يجب أن يكون جرس إنذارٍ لكل الجامعات الأردنية على حدٍّ سواء.
لم يعد مقبولًا أن تتكرر هذه المشاهد المؤلمة بين الحين والآخر، ثم نكتفي بالاستنكار أو التبرير، ولا بدّ من إجراءات صارمة وحازمة من إدارات الجامعات كافة، تتدرج من العقوبات التأديبية والفصل النهائي للمشاركين في العنف، إلى وضع أنظمة ردع واضحة، وتعزيز برامج الوقاية والتوعية التي تغرس في الطلبة ثقافة الحوار والتسامح والانتماء الحقيقي للوطن والجامعة، فالحزم في مثل هذه القضايا ليس قسوة، بل حماية للبيئة الجامعية ولمستقبل التعليم في الأردن، والصرامة هنا ضرورة تربوية، لأن الجامعة التي لا تدافع عن قيمها سَتخسر رسالتها، والطالب الذي لا يتعلم احترام القانون لن يكون مؤهلًا لبناء وطنه بعد التخرج، إننا نحتاج اليوم إلى أن نستعيد روح الجامعة الأردنية التي عرفناها: منارة للحوار، لا منبرًا للخصام، فضاءً للتنوير، لا مسرحًا للعنف، رمزًا للوطنية الواعية، لا مرآةً للانقسام الاجتماعي.
قد تكون هذه الحادثة مؤلمة، لكنها أيضًا جرس إنذار، وربما آن الأوان أن نعيد النظر في معنى الانتماء الجامعي، وأن نُربي أبناءنا وطلبتنا على أنّ الانتماء الحقيقي هو للعلم، وللقيم، وللأردن الذي نحبه جميعًا.
الجامعة الأردنية ستبقى، كما كانت، أمّ الجامعات، وستتعافى من هذه الحادثة كما تعافت من غيرها، لأن فيها من العقول والقلوب ما يكفي لإعادة البناء والإضاءة من جديد، لكنّ ما نحتاجه اليوم هو أن نَحزن بصدق، لا أن نغضب فقط… أن نراجع أنفسنا، لا أن نُلقي اللوم على غيرنا… فالعنف في الجامعات لا يُطفئه الأمن، بل يطفئه الوعي.