facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




التعليم العالي في الأردن أمام المحك: السمعة مسؤولية وطنية


أ. د. هاني الضمور
20-10-2025 10:11 AM

لم يعد التعليم العالي ترفًا، ولا مجرد شهادة تؤطرها المناهج والامتحانات. إنه اليوم صناعة متكاملة تقاس قوتها بسمعتها أولًا قبل أي معيار آخر. والأردن، الذي بنى لنفسه عبر عقود سمعة إقليمية مرموقة في تصدير الكفاءات واستقطاب الطلبة العرب، يجد نفسه اليوم أمام المحك. ليس لأن الجامعات تفتقد الكفاءات أو لأنها خارج المنافسة، بل لأن الثقافة المجتمعية والإعلام يتكفلان أحيانًا بتقويض الصورة التي بُنيت بجهد وعرق طويل.

لقد افتخر الأردنيون دومًا بتقديرهم للتعليم. فالعائلات لم تتردد في إنفاق ما تملك من أجل تعليم أبنائها، وجعلت من الشهادة الجامعية رمزًا اجتماعيًا ومفتاحًا لمستقبل أفضل. غير أن هذه القيمة الأصيلة تحولت تدريجيًا إلى فخ، إذ صار التركيز على الكمّ لا الكيف، وعلى الشهادة لا المهارة. والنتيجة جيل يحمل أوراقًا أكثر مما يحمل أدوات حقيقية للابتكار والمنافسة. هذه الثقافة تضع التعليم العالي أمام سؤال صعب: هل نحن نصنع معرفة، أم نصنع أوراقًا؟

الإعلام من جانبه يزيد المشهد تعقيدًا. فما إن تقع حادثة فردية في جامعة، أو أزمة في القبول، حتى تتحول إلى عنوان عريض يتصدر الأخبار. أما قصص النجاح، والأبحاث العلمية، وشراكات الجامعات الأردنية مع مؤسسات عالمية، فغالبًا ما تمر مرور الكرام. وهكذا، يتشكل خطاب عام مشوَّه: القليل من الإيجابيات والكثير من السلبيات. وهذا الخطاب لا يبقى داخل حدود الأردن، بل يصل إلى كل طالب عربي يبحث عن جامعة، وإلى كل مستثمر يفكر في الدخول إلى قطاع التعليم.

ويضاف إلى ذلك أن بعض التصريحات الرسمية، التي تصدر أحيانًا بلا تقدير كافٍ لتأثيرها، تُفاقم من المشكلة بدل أن تعالجها. فحين يتحدث مسؤول عن وجود شبهات في النزاهة البحثية داخل بعض الجامعات، أو حين يعلن آخر عن وجود آلاف الشهادات المزورة الصادرة من بعض الجامعات العربية، فإن الرسالة التي تصل إلى الرأي العام – محليًا وإقليميًا – ليست رسالة إصلاح بقدر ما هي دليل إدانة يُستخدم ضد التعليم الأردني كله. مثل هذه التصريحات، حتى وإن انطلقت بنوايا حسنة، تتحول بسرعة إلى عناوين مثيرة في الإعلام، وتُلقي بظلالها على سمعة الجامعات الوطنية وتضعف قدرتها على المنافسة.

هنا يكمن الخطر الأكبر. فسمعة التعليم العالي لا تُصنع في التصنيفات وحدها، بل في الرواية التي يكتبها المجتمع والإعلام معًا، وفي الخطاب الذي يصدر عن صناع القرار. وإذا كانت هذه الرواية سلبية، فإنها تُفقد الأردن ميزته التنافسية، مهما بلغت جودة جامعاته. العالم اليوم لا يحكم على الجامعات بما تقدمه فقط، بل بالصورة التي تصل إليه عنها. وفي ظل منافسة إقليمية شرسة، حيث تستثمر دول الخليج وتركيا وماليزيا مليارات في قطاع التعليم لجذب الطلبة العرب والأجانب، يصبح تآكل السمعة خطرًا استراتيجيًا يهدد موقع الأردن الذي بُني على مدى عقود.

الأردن اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما. إما أن يستمر في هذا المسار، حيث يسيطر الخطاب السلبي وتُترك الساحة لتكرار الأخبار المحبطة، فتتآكل السمعة تدريجيًا ويخسر البلد موقعه كمركز تعليمي إقليمي. أو أن يتعامل مع القضية كملف وطني استراتيجي، فيعيد صياغة الثقافة المجتمعية لتقدّر الإبداع والمهارة لا الشهادة فقط، ويعيد توجيه الإعلام ليكون شريكًا في البناء لا أداة في الهدم.

الحلول ليست معقدة. المطلوب استراتيجية واضحة تضع السمعة التعليمية في صدارة الأولويات. هذه الاستراتيجية تقوم على أربع ركائز:
أولًا، إعلام متخصص يوازن بين النقد والإشادة، ويعرض الصورة الكاملة بدلًا من اختزالها في أحداث فردية. ثانيًا، منصات وطنية للترويج لقصص النجاح في الجامعات، من أبحاث علمية رائدة إلى خريجين حققوا إنجازات إقليمية ودولية. ثالثًا، برامج تدريب للمتحدثين الرسميين في الجامعات ووزارة التعليم العالي لإدارة الأزمات الإعلامية بسرعة وشفافية. ورابعًا، برامج توعية مجتمعية تعيد الاعتبار للتعليم كصناعة معرفة لا كطريق إلى وظيفة فقط.

إن الامتحان الحقيقي للتعليم العالي ليس في قاعات المحاضرات وحدها، بل في ثقة المجتمع وصورة الإعلام. إذا وُجه الخطاب نحو النقد البنّاء وتعزيز الإيجابيات، فإن الأردن قادر على استعادة موقعه وتعزيز سمعته. أما إذا بقيت الصورة رهينة أخبار موسمية سلبية وثقافة تلهث وراء الشهادة، فإن الخسارة ستكون جماعية، والسمعة ستتآكل أكثر فأكثر.

الوقت الآن هو وقت القرار. فإما أن تُدار السمعة كأصل وطني، أو أن تُترك للتآكل البطيء. وفي الحالتين، العالم يراقب. الطلبة يختارون وجهاتهم التعليمية بناءً على الصورة قبل المضمون، والمستثمرون يقيسون المخاطر بقدر ما يقيسون الفرص. ما يحتاجه الأردن اليوم ليس مجرد إصلاح أكاديمي، بل إصلاح في الخطاب الثقافي والإعلامي، يعيد وضع التعليم العالي في مكانه الطبيعي: رافعة للتنمية، وواجهة مشرقة للوطن.

التعليم العالي في الأردن أمام المحك، وهذه ليست مبالغة. إنها الحقيقة التي يجب أن يواجهها صانع القرار. فإما أن نعيد بناء سمعتنا بإرادة واعية، أو نتركها تنهار تحت وطأة الإهمال والسطحية. والأردن الذي يملك ثروة بشرية متعلمة لا يملك رفاهية أن يخسر هذه المعركة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :