وبينما تحاول واشنطن اللحاق بالركب عبر إعادة تشغيل مناجمها، ترد بكين بخطوة أبعد، كالاستثمار في أفريقيا وأميركا اللاتينية لتأمين مصادر بديلة تحت مظلتها. أي أن الصين تحتكر حتى البدائل قبل أن تولد.
اتفاق رواندا والكونغو
في لحظة فارقة من التاريخ السياسي للقارة الأفريقية، وقعت رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية اتفاق سلام في يونيو/حزيران 2025، ينظر إليه كمحطة مفصلية في سياق إعادة رسم مستقبل صناعة التعدين في المنطقة. فالمناطق الحدودية بين البلدين تعد من أغنى مناطق العالم بعناصر استراتيجية مثل الكوبالت والنيوديميوم، وهما من بين المعادن الأكثر طلبا في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية والمغناطيسات الدائمة المستخدمة في الصناعات الدفاعية، والفضائية، وأشباه الموصلات.
الاتفاق، الذي تم بوساطة إقليمية ودعم دولي، يفترض أن يخلق بيئة أكثر استقرارا للاستثمار الأجنبي في التعدين، خاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في محاولة لتنويع مصادر الإمداد وتقليل الاعتماد على الصين. ويتوقع أن يمهد هذا التفاهم الطريق أمام إطلاق مشاريع استخراج وتكرير جديدة، وتحديث البنية التحتية التعدينية في شرق أفريقيا.
منظر عام لمنشآت المعالجة في منجم تينكي فونغوروم، أحد أكبر مناجم النحاس والكوبالت في العالم، جنوب شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية
لكن الواقع أكثر تعقيدا. فالموارد الطبيعية، رغم غناها، كانت دائما في أفريقيا سببا للنزاع وليس أداة سلام. لذلك يثير الاتفاق تساؤلات حول مدى واقعية بناء سلام مستدام على قاعدة الثروات المعدنية، خصوصا مع وجود ميليشيات مسلحة ومصالح إقليمية متضاربة في المنطقة. وقد حذر محللون من أن غياب الشفافية والمحاسبة قد يحول الاتفاق إلى صراع جديد مقنع بعباءة التنمية، بدلا من أن يكون منصة لإطلاق مرحلة استقرار حقيقي.
تحجيم الدور الصيني
في ضوء هذه التحولات، تبحث القوى الغربية عن بدائل تكنولوجية أو اقتصادية لتحجيم الدور الصيني المهيمن على سلسلة القيمة الكاملة للمعادن النادرة. في مواجهة ذلك، تجرى تجارب في مختبرات أميركية ويابانية على استخدام مركبات بديلة مثل الحديد-النيتريد أو الكربون المعالج، لكن هذه المواد لا تزال تفتقر إلى الكفاءة المطلوبة، خاصة في تطبيقات مثل الأنظمة الدفاعية أو محركات الأقمار الصناعية. أي أن الاعتماد على البدائل التقنية لا يزال محدودا ومؤجلا للمدى الطويل.
من جهة أخرى، تطرح إعادة التدوير كخيار استراتيجي لتعويض الفجوة، لكنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة من حيث الكفاءة والتكلفة. فوفقا لتقارير الصناعة، فإن أقل من 10٪ من الطلب العالمي على المعادن النادرة يمكن تغطيته من خلال التدوير، وذلك بسبب صعوبة فصلها من المنتجات الإلكترونية القديمة وتعقيد عمليات الاسترجاع.
في قلب كل مفاوضة تجارية كبرى، باتت المعادن النادرة تلعب دورا غير مباشر لكنه حاسم. الصين استغلت هذا الملف كورقة ضغط ضد الولايات المتحدة، حيث هددت مرارا بتقييد صادراتها في أوقات التوتر التجاري. هذا السلاح غير التقليدي أكسبها موقعا تفاوضيا قويا، وجعل من التحكم في هذه المواد أداة ديبلوماسية لا تقل فعالية عن العقوبات الاقتصادية.
في المقابل، بدأت بعض الدول الأفريقية—مثل زيمبابوي—بالاستفادة من نفوذها الجيولوجي. فقد فرضت الحكومة قيودا على تصدير خام الليثيوم بغرض تعزيز التصنيع المحلي وخلق سلاسل قيمة داخلية. وتتبنى دول أخرى نهجا شبيها من خلال عقد شراكات استراتيجية مع تكتلات آسيوية وأوروبية، في محاولة لضمان دور متكافئ في سلاسل الإمداد العالمية وعدم البقاء كمجرد "مزود خام".
في العقدين الأخيرين، كان الغرب يعيش في وهم "الاعتماد المتبادل"، معتقدا أن الصين ستظل مجرد مصنع كبير للعالم، بينما تبقى واشنطن ولندن وبروكسيل صاحبة القرار والتفوق التكنولوجي. لكن إعلان بكين الأخير في شأن تقييد صادرات المعادن النادرة أيقظ الجميع على حقيقة صادمة، أن مفاصل التكنولوجيا الغربية كلها — من المقاتلات إلى الهواتف الذكية — تمر عبر يد الصين. أدركت واشنطن أن خصمها لا يحتاج إلى جيوش كي يضغط عليها، بل يكفي أن يوقف شحنة صغيرة من معدن اسمه "النيوديميوم".
بدأت الولايات المتحدة رحلة استعادة السيطرة بخطى متعثرة. ففي عام 2010، وبعد الأزمة التي فجرتها الصين مع اليابان، قررت واشنطن إعادة تشغيل منجم "ماونتن باس" في صحراء كاليفورنيا، وهو المنجم الذي أغلقته قبل سنوات بسبب التلوث. بدا القرار كأنه بداية جديدة، لكنه سرعان ما كشف المفارقة القاسية: المنجم الأميركي كان يرسل خاماته إلى الصين من أجل التكرير. بكلمات أخرى، كانت أميركا تحفر في أرضها ولكنها لا تزال تعتمد على خصمها ليتم العملية. وكأنها استعادت السيادة على التراب، لكنها فقدتها في المختبر.
منذ ذلك الوقت، حاولت الإدارات الأميركية المتعاقبة رسم "خريطة جديدة لسلاسل الإمداد". وضعت وزارة الدفاع المعادن النادرة ضمن أولويات الأمن القومي، وبدأت بتمويل أبحاث في الجامعات لتطوير تقنيات تكرير نظيفة وصديقة للبيئة. غير أن العقبة الكبرى ظلت بيئية واقتصادية في آن واحد. فالتكرير عملية معقدة تتطلب عشرات المواد الكيميائية وتخلف نفايات سامة يصعب التخلص منها. الصين كانت مستعدة لتحمل هذه التكلفة منذ الثمانينيات، لكن واشنطن اليوم تجد نفسها أسيرة رأي عام يرفض أي نشاط يلوث البيئة. الديمقراطية هنا ليست في صف الصناعة.
مغازلة ترمب بالمعادن
وتسعى عدة دول إلى كسب ودّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عبر توقيع اتفاقات تتعلق بالمعادن الحيوية، وهي عناصر أساسية في الصناعات العسكرية والتكنولوجية الحديثة، في ظل هيمنة الصين على إنتاجها ومعالجتها.
أحدث هذه الدول هي أستراليا، حيث وقّع رئيس وزرائها أنتوني ألبانيزي اتفاقًا في واشنطن يمنح الولايات المتحدة وصولاً أوسع إلى احتياطياتها من المعادن الحيوية مقابل استثمارات مشتركة تبلغ 3 مليارات دولار خلال ستة أشهر، لاستخراج معادن تُقدَّر قيمتها بـ 53 مليار دولار. كما سيستثمر البنتاغون في إنشاء مصفاة متقدمة في غرب أستراليا لإنتاج معدن الغاليوم.
يرى ترمب أن هذا التعاون سيجعل الولايات المتحدة خلال عام تمتلك "من المعادن الحيوية ما يفوق حاجتها"، إذ أصبحت هذه الموارد محورًا رئيسيًا في سياسته الخارجية، من الصفقات الدبلوماسية إلى التهديدات التجارية.
وفي أوكرانيا، ربط ترمب استمرار الدعم الأميركي لكييف بالحصول على جزء من ثرواتها المعدنية، مما أدى في أبريل إلى توقيع اتفاق يمنح الشركات الأميركية أفضلية في الوصول إلى أكثر من مئة منجم للّيثيوم والتيتانيوم. أما في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد توسط ترامب في اتفاق سلام مع رواندا يشمل التعاون في مجال المعادن الحيوية، في محاولة للحد من النفوذ الصيني في إفريقيا، رغم بقاء الاتفاق محل جدل داخلي. وفي باكستان، أبرمت الحكومة صفقة بقيمة 500 مليون دولار مع شركة أميركية تتيح استخراج معادن مثل الأنتيمون والنحاس، مع بدء أولى الشحنات إلى الولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول.
تسعى إدارة ترمب أيضًا لتعزيز السيطرة المباشرة عبر استثمار وزارة الدفاع في شركة "أم بي ماتريالز" الأميركية وشراء حصص في شركات كندية، استمرارًا لنهجها الرامي إلى بناء أمن اقتصادي قائم على الموارد الحيوية — وهو نفس الدافع وراء اهتمام ترامب السابق بشراء غرينلاند.