المعري و"الزمن" المُفترى عليه
يوسف عبدالله محمود
25-10-2025 09:56 PM
لم يكن أبو العلاء المعري شاعرًا فحسب، بل ايضًا فيلسوف حياة. برأ ساحة الزمن من الاتهامات الباطلة التي نوجهها اليه كعرب تبريرًا لإخفاقاتنا الفردية والجماعية. هو فيلسوف لأنه استطاع ان ينظر الى الحياة الإنسانية –وهو الكفيف- نظرة واقعية، "فسرت الأشياء بأسبابها الحقيقية". لم تلجأ الى إدانة "الزمن" كما فعل شعراؤنا منذ العصر الجاهلي وحتى الان حين جعلوا هذا الزمن "شماعة" يعلقون عليها إحباطاتهم وفشلهم.
يقول المعري:
شكوا الزمان وما اتى بجناية ولو استطاع تكلمًا لشكانا
متوافقين على المظالم ركبت فينا وقارب شرّنا ازكانا
والدهرُ لا يدري بما هو كائن فيه فكيف يلام فيما كانا
المعري سخر من هؤلاء الذين اساءوا الى "الزمن" ونعتوه مرارًا إن في اشعارهم او حتى في كلامهم العادي. إن نجحنا في مسعانا، فالزمن بريء ومرضيّ عنه. وان فشلنا فهو الملوم الغدار وليس نحن!
كلنا بلا استثناء عن قصد او غير قصد اعتدنا ان نكرر القول الشائع: "هذا زمن رديء"؟ نحيل فشلنا واخفاقنا على "الزمن" وبهذا نعفي انفسنا من اية "مسؤولية"!
أتساءل: لماذا لا ينحو الاخرون في الأمم المتحضرة هذا المنحى العربي؟ لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها اذا ما أخفقنا او هُزمنا؟
حتى هزائمنا القومية نٌقحم "الزمن" في أسبابها دون ان نشير الى تقاعسنا وتخاذلنا وتقصيرنا!
المعري كان "عقلانيًا" حين ارجع أسباب الفشل الإنساني الى التقصير في التعامل مع الحياة. "لا ذنب للدنيا فكيف نلومها"؟
في هذا السياق نقرأ للمفكر العربي الراحل د. محمد جواد رضا مفردات ممتلئة حول "الزمن" المُفترى عليه.
لقد جهد أبو العلاء في عصمة عقل الانسان العربي من فانتازيا اللغة المموهة وجهد في تعليم الناس ان الزمن ليس رديئًا ولا جيدًا بذاته وانما هو محض "ظرف" او "إطار" من "الوقت" يؤطر حدوثات الأشياء وحركاتها.
والله صير للبلاد وأهلها "ظرفين" وقتًا ذاهبًا ومكانا (د. محمد جواد رضا: "تحرير التربية العربية من الأوهام الخمسة" ص 46، مركز البحرين للدراسات والبحوث)
"الزمن" بريء من اية ادانة، المُدان هو الانسان حين يقصر او يتنازل عن حق تحت التهديد من القوى.
المعري كالحكيم اليوناني سقراط الذي دعا الى "نقد الذات" أي اعرف نفسك اولاً قبل ان تتهم شيئاً غير عاقل اسمه "الزمن".
لقد تقدم المعري عصره حين طان موضوعيًا وهو يتأمل شؤون الحياة. لم ينافق احدًا من مسؤولي عصره العباسي حين راح بعضهم يحاول استمالته الى ركاب السلطة. رفض ذلك بإباء. عاش فقيرًا ومات فقيرًاّ
شغلته "الحقيقة الموضوعية" دون غيرها فكرس شعره ونثره دفاعًا عنها. اليس هو القائل منتقدًا ظلم عصره:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها وعَدَوا مصالحها وهم أجراؤها
سخر المعري من "الفهلوة" التي اعتادها شعراء عصره بمن فيهم الكبار منهم، حين برروا لسلطة زمانهم كل تصرفاتها التي قسمت الناس الى "خاصة" و"عامة"!