نقلق لكن لا نخاف إلا الله .. معادلة الثقة الملكية في خطاب العرش
أ.د احمد منصور الخصاونة
27-10-2025 10:01 AM
"نقلق لكن لا نخاف إلا الله" — معادلة الثقة التي شكّلت جوهر خطاب العرش السامي الذي ألقاه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، في لحظة دقيقة من عمر الدولة الأردنية، جاءت كنبض وطني خالص يعبّر عن روح الأردنيين وهم يواجهون تحديات المرحلة بثقةٍ لا تلين. في ثماني دقائقٍ من البيان الملكي، صفق الحضور ست عشرة مرة، لا مجاملةً ولا تكراراً للبروتوكول، بل تصفيقاً لوضوح الرؤية وصدق العبارة، حين خاطب الملك شعبه قائلاً إننا نقلق، لكننا لا نخاف إلا الله.
كان الخطاب أكثر من افتتاح لدورة برلمانية جديدة؛ كان تجديداً للعهد بين الملك والشعب، وتأكيداً على أن القلق لا يعني الضعف، بل الوعي بحجم التحديات، والإدراك بأن الثقة بالله وبالوطن هي السلاح الأصدق في وجه أي خوف. القلق في الوجدان الملكي ليس تردداً، بل مسؤولية، أما الخوف فهو محظورٌ على من آمن بأن الله هو الحامي، وأن الأردن وُجد ليبقى.
جاء الخطاب محمولاً على أعراف دستورية راسخة، حين ألقى جلالته خطبة العرش الرابعة والعشرين في عهده الميمون، إيذاناً ببدء الدورة الثانية من عمر المجلس العشرين، في سياقٍ يؤكد أن الملكية الدستورية في الأردن ليست شكلاً من أشكال الحكم، بل ممارسة يومية تتجدد في احترام الدستور والالتزام بالمؤسسات. وفي ثنايا الكلمات، أعاد الملك تثبيت الثوابت الأردنية القومية، مؤكداً أن القضية الفلسطينية ستبقى قضيتنا الأولى، وأن الأردن لن يتخلى عن التزامه التاريخي والأخلاقي تجاه الأشقاء، وأن القدس ستظل في القلب، بعروبتها ومقدساتها، وبثبات موقفٍ لا يتزعزع أمام الضغوط أو المساومات.
لكن الرسالة الأهم في الخطاب كانت الاستدارة نحو الداخل، نحو الإنسان الأردني وكرامته وحقه في الحياة الحرة الكريمة. بعد سنواتٍ من الحراك الدولي والاشتباك مع المجتمع الدولي دفاعاً عن مصالح الوطن، وجّه الملك البوصلة من جديد نحو الداخل، نحو الأردني الذي ينتظر الفعل لا القول، ويترقب ترجمة الرؤية الملكية إلى واقعٍ يوميٍّ يلمسه في معيشته وفرصه ومستقبل أبنائه.
دعا جلالته الحكومة ومجلس الأمة إلى تفعيل الرؤية الملكية دون إبطاء، فالتوجيه واضح وضوح الشمس: الانتقال إلى دولة الإنتاج، خلق فرص التنمية، دعم الاستثمار، وتمكين الكفاءات الأردنية التي كانت ولا تزال عماد النهضة. فالأردن لا يعوزه الفكر ولا الإنسان، بل الإدارة التي تضع العربَة خلف الحصان وتطلق الطاقات في الاتجاه الصحيح. لقد آن الأوان لأن نتحول من دولة تنتظر المساعدات إلى دولة تصنع الفرص، ومن ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج، ومن الشكوى إلى العمل.
ولم يغب عن الخطاب الإنساني الملكي اهتمامه الدائم بالخدمات الأساسية التي تمسّ حياة المواطن اليومية، من تعليمٍ وصحةٍ ونقلٍ عام، فهي شرايين الحياة التي تحدد جودة المعيشة وتفتح أبواب الأمل. كما أكد جلالته أن العدل هو أساس الملك، وأن تطبيق القوانين بعدالة وشفافية هو الضمانة الوحيدة لثقة المواطن بدولته، فالدولة التي يعلو فيها صوت القانون لا يُظلم فيها أحد، والميزان الوطني الذي يستند إلى العدالة لا يأتيه الباطل من أي ركن.
وفي مشهد الوفاء للثوابت، حيّا جلالة الملك القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، والأجهزة الأمنية التي تحفظ للوطن أمنه واستقراره وتصون كرامة أبنائه، فهم السند والسياج والدرع الواقي الذي تتكئ عليه الدولة في أوقاتها الصعبة. لم تكن الإشادة الملكية مجاملةً، بل كانت امتداداً لعقد الثقة المتين بين القيادة ومؤسسات الدولة، وبين الدولة وشعبها الذي يعرف أن أمنه لم يكن يوماً هبة، بل ثمرة تعبٍ وسهرٍ وتضحية.
إن المعنى السياسي العميق للخطاب يتمثل في انتقاله من الخارج إلى الداخل، من الحديث عن العالم إلى الحديث عن الأردني، من اللغة التحذيرية إلى لغة البناء والتحفيز. إنها دعوة لمراجعة الأداء، وإعادة ترتيب الأولويات، وتكريس نهجٍ عمليٍّ في تنفيذ الخطط الوطنية بعيداً عن الشعارات والمماطلة. فالملك لم يطلب المستحيل، بل أراد من الجميع أن يصدقوا في العمل كما صدق هو في القول.
في جوهر الرسالة، يتجلى وجه الأردن كما أراده الملك: دولة تحيا بالكرامة، وتعمل بالثقة، وتؤمن أن قوتها في وحدتها، وأن الله هو الحارس الأمين لها. ومعادلة «نقلق لكن لا نخاف إلا الله» ليست عبارة عابرة، بل منهاج وطني للحياة، يذكّر الأردنيين بأن القلق لا يعني الهزيمة، وأن الخوف لا يليق بأمةٍ تعرف أن من صدق مع الله ومع الوطن لا يخذله الله أبداً.
في خطابٍ قصير المدة، كبير المعنى، قدّم جلالة الملك عبدالله الثاني درساً في الثبات والواقعية والإيمان، وأعاد رسم البوصلة نحو ما هو أهم: الإنسان الأردني. فالدولة التي تُقلقها أحوال شعبها لا تخاف على نفسها، لأنها تعرف أن القلق الذي يصحبه الإيمان والعمل هو طريق النجاة. وهكذا، يبقى الأردن كما أراده الهاشميون منذ فجر التأسيس: وطناً يقلق حين يحب، لكنه لا يخاف إلا الله.