في العقود الأخيرة تغيّر وجه العالم بشكل جذري. التكنولوجيا لم تعد فقط أداة تسهّل الحياة، بل أعادت تشكيلها على نحو غير مسبوق. ومع كل خطوة نحو “الكفاءة” و“المنطق” و“العملية”، تتراجع العاطفة خطوة إلى الوراء. صار الإنسان الحديث أكثر قدرة على الإنجاز، وأقل قدرة على الشعور.
العلاقات الإنسانية التي كانت تقوم على دفء المشاركة والاهتمام المتبادل، تحوّلت إلى منظومات منفعة متبادلة. لم تعد الصداقة رابطًا وجدانيًا بقدر ما أصبحت شبكة مصالح. الزمالة في العمل تقوم على التعاون ما دام مفيدًا، وتنتهي فور غياب الفائدة. وحتى المشاعر، التي كانت ذات يوم سمة تميّز الإنسان عن الآلة، صارت تُترجم في كثير من الأحيان إلى بعد واحد: الجنس. اختُزلت العاطفة إلى تفاعل جسدي مؤقت، وفُقدت الطبقة الأعمق التي تربط بين البشر على مستوى الفهم، والحنان، والاحتواء.
المجتمع الحديث يُشجّع هذا التحوّل بشكل غير مباشر. لغة الشركات والمؤسسات، بل وحتى لغة الإعلام، تتحدث عن “الكفاءة”، “الجدوى”، “النتائج”، و“الإنتاجية”. نادراً ما يُذكر “الانتماء” أو “الاحترام المتبادل” أو “الولاء الإنساني”. كل شيء أصبح قابلاً للقياس، حتى العلاقات الشخصية. إذا لم تضف لك قيمة، تَخلَّ عنها.
يبدو أننا نسير نحو عالم تحكمه الخوارزميات أكثر مما تحكمه المشاعر. عالم يَعرف كيف يُنتج بسرعة، لكن لا يعرف كيف يحبّ. ومع تزايد العزلة الرقمية، يزداد الإنسان بعدًا عن التجربة الإنسانية الحقيقية: الإصغاء، التقدير، المشاركة الصامتة، والوجود الصادق إلى جانب الآخر.
قد يبدو الأمر منطقياً من منظور تطوّري أو اقتصادي — فالعالم يحتاج إلى السرعة والفعالية — لكن السؤال الحقيقي هو: ما الثمن؟ حين تُستبدل العاطفة بالعملية، نخسر جوهر التجربة البشرية. نتحول إلى أفراد ناجحين في الإنجاز، فاشلين في التعايش.
العاطفة ليست ضعفًا، كما يُروَّج في ثقافة “الصلابة”، بل هي ما تجعل كل عملية ذات معنى. من دونها، تصبح حياتنا سلسلة من المهام المُنجزة لا أكثر. وربما أخطر ما يواجهنا اليوم ليس جفاف المشاعر، بل تطبيع هذا الجفاف بوصفه “نضجًا”...
لا يطالب مقالي هذا بالعودة إلى العاطفة المطلقة أو المثالية أو تلك الدرامية ، بل إلى التوازن: أن نفهم أن المنفعة ليست عيبًا، لكنها حين تُصبح المحرّك الوحيد، تقتل فينا ما تبقّى من إنسانية.
قد نكسب الوقت، ونربح الإنتاج، لكننا نخسر الجوهر الذي يجعلنا بشرًا.