العرب المسيحيّون: الجذور والأدوار والمسار النهضويّ
28-10-2025 11:39 PM
*قراءة أكاديمية تحليلية لأعمال "مؤتمر العرب المسيحيّين الأوّل – الجذور والأدوار والمسار النهضويّ" المنعقد في عمّان يومي 24-25 تشرين الأول 2025.
عمون - قراءة رمزي ناري
برعاية "جمعية الثقافة والتعليم الأرثوذكسية"، انعقد في عمّان "مؤتمر العرب المسيحيّين الأول – الجذور والأدوار والمسار النّهضويّ". شارك فيه أربعةٌ وعشرون باحثًا من الأردن ولبنان وفلسطين وسوريا ومصر وألمانيا وروسيا وكندا، قدّموا أوراقًا علمية موزعة على أربع جلسات رئيسة.
تهدف القراءة إلى استشراف الأبعاد الفكرية والحضارية التي أبرزها المؤتمر، من خلال تتبّع الدور التاريخي للعرب المسيحيين في ثلاثة مستويات متكاملة: الجذور الحضارية قبل الإسلام، والمساهمات النهضوية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ثمّ التحديات الراهنة في ضوء خطاب المواطنة والتنوير.
وتخلص القراءة إلى أنّ المسيحيين العرب شكّلوا عبر التاريخ عنصرًا مؤسِّسًا في الوعي العربي الجمعي، وأنّ حضورهم المتواصل يعكس استمرارية حضارية وفكرية Historical and Cultural Continuity في صياغة هوية العروبة الحديثة، بوصفها مشروعًا إنسانيًا جامعًا يتجاوز الانتماءات الدينية والمذهبية نحو أفق النهضة المشتركة.
لم يكن المؤتمر مجرّد تظاهرة علمية لتبادل الأوراق البحثية، بل خطوة تأسيسية في مسار إعادة قراءة الذات العربية من منظور شامل يدمج البعد الديني والثقافي في مشروع النهضة العربيّة المتجددة. إنّ أهميته لا تكمن في توثيق الأدوار التاريخية للمسيحيين العرب فحسب، بل في إبرازهم كفاعل حضاري أصيل، وكـاستمرارية في الوعي الجمعي العربي Agent of Continuity، من مرحلة ما قبل الإسلام إلى اليوم.
أولًا: الجذور الحضارية – المسيحيون العرب قبل الإسلام
تناولت الجلسة الأولى جذور الوجود العربي المسيحي قبل الإسلام، حيث قدّم الباحثون دراسات متعدّدة تجمع بين المنهج التاريخي والأثري والفكري.
أشار د. زيدان كفافي إلى الحضور المسيحي المبكر في الأردن من منظور أثري يبيّن أنّ المسيحية لم تكن طارئة على المنطقة، بل شكّلت امتدادًا للحضور العربي الحضاري في المشرق. كما ناقش الأب حارث إبراهيم شهادات مسيحيي الجزيرة العربية وشهداؤهم قبل الإسلام ودورهم في صياغة وعي ديني ووطني مشترك.
في المقابل، ركّز الأب د. ألكسندر تريغر على بدايات الأدب العربي المسيحي في فلسطين وسيناء، مؤكدًا أن الهوية العربية المسيحية ليست لاحقة على الإسلام بل سابقة عليه ومكوّنة لجزء من بنية اللغة والثقافة العربية نفسها.
أما د. نجيب عوض ود. نادين عباس فقد أضاءا على الإسهامات الفلسفية لمفكّرين مسيحيين عرب في العصر الإسلامي المبكّر، مثل ثاودوروس أبو قرّة ويحيى بن عدي وعيسى بن زرعة، الذين أدخلوا الفكر الفلسفي اليوناني في الحوار اللاهوتي العربي ضمن أفق جديد من التبادل الفكري بين الأديان Interreligious Intellectual Exchange.
وأخيرًا، أظهر د. إيلي ضناوي كيف أسهمت الترجمات العربية للأناجيل في بناء جسر لغوي وحضاري بين الشرق المسيحي والعالم العربي الإسلامي، مشيرًا إلى أنّ هذه الترجمات كانت أداة معرفية في خدمة الهوية العربية الجامعة.
تجمع هذه الأوراق على أنّ المسيحيين العرب شكّلوا نواة مبكرة للنهضة العربية الأولى، إذ أسسوا فضاءً معرفيًا يتقاطع فيه الدين والفلسفة واللغة، وأنّ حضورهم كان تأسيسيًا وأصيلًا Constitutive في نشوء مفهوم "العروبة" ذاته كإطار ثقافي جامع لا ديني ضيق.
ثانيًا: النهضة الثانية – العرب المسيحيّون في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين
تناولت الجلسة الثانية ما يمكن تسميته بـ"النهضة العربية الثانية"، وهي الحقبة التي استعاد فيها العرب المسيحيون زمام المبادرة الثقافية والفكرية.
ناقش د. مهند مبيضين ود. مجدي جرجس نماذج رائدة مثل خليل غانم وعبدالله مرّاش والأقباط في ثورة 1919، مبرزين أن انخراط المسيحيين العرب في حركات الإصلاح القومي والوطني لم يكن بدافع طائفي، بل من منطلق وطني مدني شامل.
كما عرضت د. إيمان الهياجنة ود. صفية السلامين تجربة مجلة الجنان بوصفها منبرًا لتأسيس الخطاب العربي النهضوي، في حين قدّمت د. هند أبو الشعر والأب د. بشارة دحابرة دراسات حول الوجود المسيحي في الأردن وسلطة الكنيسة المقدسية، كاشفين عن علاقة عضوية بين الهوية الوطنية والكنسية في شرق الأردن الحديث.
اللافت في هذه الجلسة أيضًا طرح د. ماكسيم سوتشكوف حول إعادة اكتشاف الهوية العربية في العالم الأرثوذكسي ودورها في نشر السلام، بما يجعل من المسيحية العربية أحد أركان الدبلوماسيّة الدينيّة Religious Diplomacy المعاصرة.
لقد أبرزت هذه المداخلات مجتمعة أنّ النهضة العربية الحديثة كانت مشروعًا عربيًا مشتركًا، ساهم المسيحيون فيه كروّاد للتنوير والتعليم والصحافة، وأنّ حضورهم في الفضاء العمومي رسّخ مفاهيم الهوية المواطنيّة الجامعة Civic Identity Nationalism مقابل النزعات الانعزالية.
ثالثًا: الحاضر والتحديات – العرب المسيحيّون في السياق الراهن
تنوّعت محاور اليوم الثاني في الجلستين الثالثة والرابعة لتتناول التحديات المعاصرة التي تواجه المسيحيين العرب في المجتمعات العربية الحديثة.
قدّم القس د. متري الراهب ود. أسعد قطّان والأب د. غي سركيس تحليلات فكرية ولاهوتية حول إشكاليات العروبة والحرية الفردية والعلاقة بين الكنيسة والمجتمع، وأعادوا طرح سؤال المواطنة في ضوء الفكر النهضوي العربي المسيحي.
كما قدّم د. عامر الحافي قراءة تأسيسية قرآنية للمسيحية تُسهم في إثراء وإعادة تأصيل العلاقة بين الأديان Interfaith re-grounding والحوار الإسلامي المسيحي على أسس معرفية معاصرة.
أما د. ربا زيدان ورانية الجعبري فطرحتا بُعدين ثقافيين جديدين: صورة العربي المسيحي في الإعلام، وكتابة الأطفال عن الشخصيات المسيحية، وهما مجالان يعكسان التحوّل في الوعي الجمعي تجاه التنوع الديني والثقافي.
وفي الجلسة الأخيرة، شدّد د. جوني منصور ود. سلمى النمس ود. علاء حمارنة ود. موفق محادين ود. جوزيف زيتون والأرشمندريت د. بسام شحاتيت على أنّ التحدي الأكبر اليوم هو الحفاظ على حضور العرب المسيحيين في مجتمعاتهم من خلال تعزيز دولة المواطنة، والتصدي لخطابات الإقصاء والهجرة، ومواصلة الفكر النهضوي في مواجهة التشرذم الطائفي .Sectarian Fragmentation
لقد أبرزت هذه الدراسات أنّ العرب المسيحيين يواصلون دورهم التاريخي بوصفهم خميرة المجتمع العربي – أي عنصرًا فاعلًا في تجديد الفكر والهوية، لا مجرد أقلية مدافعة عن ذاتها.
خاتمة واستشراف
يُظهر هذا المؤتمر أنّ العرب المسيحيّين عبر التاريخ لم يكونوا "أطرافًا" في الحضارة العربية، بل أحد أعمدتها المركزية، وأنّ مسارهم النهضوي هو امتداد حضاري متواصل Historical Continuity من العصور القديمة إلى الحاضر.
فمن الفكر الفلسفي اللاهوتي في القرون الأولى، إلى الصحافة والتعليم في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى خطاب المواطنة والحوار اليوم، يتجلى حضورهم بوصفه مساهمة في مشروع عربي إنساني جامع.
إنّ القراءة الأكاديمية لأعمال المؤتمر تكشف أن استعادة الدور النهضوي للعرب المسيحيين لا تعني البحث في الماضي كحنين، بل بوصفه منبعًا لتجديد المشروع العربي نفسه. فالعرب المسيحيون جسّدوا عبر التاريخ فكرة العروبة الثقافية المتجاوزة للانقسامات، وأثبتوا أنّ الإيمان والحداثة، والعروبة والمسيحية، ليست ثنائيات متعارضة بل فضاءات للتفاعل الخلّاق.
من هنا، فإن المؤتمر يمثّل دعوة إلى بلورة مشروع فكري جديد يُعيد وصل ما انقطع بين الذاكرة التاريخية والوعي الراهن، ليكون المسيحيون العرب – كما كانوا دومًا – في قلب النهضة العربية المقبلة.
توصيات أكاديمية واقتراحات بحثية مستقبلية
(هذه التوصيات تعبّر عن رؤية الكاتب)، لا عن إدارة المؤتمر.
تعميق البحث في الجذور الفكرية للعرب المسيحيين قبل الإسلام، من خلال مشروعات أرشيفية ومخطوطية موسّعة تُبرز إسهاماتهم في نقل الفلسفة واللاهوت إلى العربية.
إعادة تقييم دور العرب المسيحيين في النهضة العربية الثانية ضمن مقاربة مقارنة تجمع بين الفكر القومي العربي والتيارات الليبرالية المسيحية المبكرة.
تشجيع الدراسات البينيّة العابرة للتخصصات Interdisciplinary Studies التي تربط اللاهوت بالتاريخ الثقافي والسياسي العربي، بما يُعيد إدماج البعد الديني في قراءة التحولات الحضارية.
إنشاء مركز أكاديمي دائم للدراسات العربية المسيحية في عمّان )على غرار المعهد الملكي للدراسات الدينيّة) أو في بيروت، يكون منبرًا للحوار البحثي ومختبرًا للتوثيق التاريخي والرقمنة الأكاديمية للمخطوطات العربية المسيحية.
إطلاق برامج بحثية مشتركة بين الجامعات العربية والأوروبية لتبادل الخبرات حول مفهوم المواطنة في ضوء التراث العربي المسيحي.
تطوير مناهج تربوية وثقافية تعرّف الأجيال الجديدة بالدور العربي المسيحي في بناء الثقافة العربية، مع تشجيع الإنتاج الأدبي والفني الذي يعيد تقديم هذه التجربة للوعي العام.
تعزيز الحوار الإسلامي المسيحي الأكاديمي على أسس فلسفية ومعرفية، بعيدًا عن الإطار الدفاعي، من خلال منتديات بحثية دورية تُسهم في تأسيس خطاب عربي إنساني مشترك.
توصية ختامية: تحويل هذا المؤتمر إلى منصّة دائمة للحوار النهضوي العربي، تُعقد بشكل دوري، لتبقى ذاكرة العرب المسيحيين جزءًا حيًّا من مسار التجديد الثقافي العربي العام.
رمزي ناري: كاتب ومترجم عراقي
ramzied@gmail.com