جولة في ذاكرة إربدي .. هناك حيث تمشي الذكريات قبل الناس
د. حمزة الشيخ حسين
30-10-2025 12:49 AM
في إربد، لا تحتاج أن تُغمض عينيك كي تتذكّر الماضي، فالمكان نفسه يهمس به. يكفي أن تسير في الحارات القديمة، تلك التي بقي بعضها وتهدّم بعضها الآخر، حتى تشعر أنّ خطواتك تسير فوق الزمن لا فوق الإسفلت. حارات ضيّقة، بيوت حجرية عتيقة، شبابيك من الخشب، وأبواب صدئة ما زالت تفتح الذاكرة قبل أن تُفتح بالمفتاح.
إربد التي دخلها مئات الآلاف على مرّ السنين، تغيّرت ملامحها، اتّسعت واكتظّت، ومع ذلك بقيت رائحة القديم فيها أقوى من أي بناء جديد. الفطرة الإنسانية غريبة؛ تميل إلى الحداثة، لكنها لا تستريح إلا في الأردن القديم، في الحارة الدافئة، في الوجه الذي تعرفه، في الاسم الذي يذكّرك بجدّك ورسائل الزمن الأول.
وعندما تلمح أحد أبناء إربد القدامى يمشي في حارته، تعرفه حتى قبل أن تطل وجهه بالكامل. ملامحهم لا تتغيّر كثيرًا… واللهجة نفسها، الابتسامة نفسها، وشيء من طيبة القلب يشعرك أنّك في بيتك حتى لو لم تتحدث معه. الأجمل أنك لو اشتريت منه شيئًا، يخفض لك السعر دون نقاش، لا لشيء إلا لأنك “ابن فلان… وحفيد فلان… والناس تعرف بعضها من الأصوات قبل الأسماء”.
في الزمن الأول، كانت الانتخابات بسيطة وواضحة. تخرج الناس من بيوتها لتصوّت لواحد من أبناء الحارة: التل، ارشيدات، الخريس، الدلقموني، الحجازي، الشرايري، عبندة، أبو سالم، السكران، الشيخ حسين، كريزم، الصبح، الجيزاوي، الرجّال، جمعة، أبو دولة، الجمل، حداد، الشبار… وغيرهم من العائلات التي حملت معًا هوية وسط مدينة إربد. لم يكن الفوز يحتاج معارك انتخابية ولا آلاف الأصوات. الحارة تعرف أبناءها… والناس تصوّت لمن عاش بينهم، سمع أوجاعهم وضحكاتهم، وشاركهم الخبز والمواقف.
لكن اليوم تغيّر المشهد. تبدّلت الخارطة الديمغرافية، دخلت موجات جديدة من السكان، وجاءت حياة مختلفة بطقوس ونمط جديد. صارت الأصوات تتوزع، والوجوه تتعدد، وأصبح وصول أبناء الحارات القديمة إلى البرلمان أو مواقع التأثير أمرًا أصعب مما كان. بعض الشباب ما زالوا يحاولون، يحملون الإرث ويحلمون بالاستمرار، لكن الطريق صار طويلًا ومزدحمًا.
ومع ذلك… إربد ما زالت إربد. حتى لو تغيرت الواجهات، بقي الجوهر نفسه. ما زالت المقاهي تعج بالضحكات، وما زال البائع يعرف زبائنه بالاسم، وما زالت “السلام عليكم” في الشارع تُقال بصدق يشبه خبز التنور القديم.
من يمشي في وسط البلد يشعر أنه لا يسير وحيدًا. الذكريات تمشي قبله. كل حجر يحتفظ بصورة، وكل زاوية رأت طفلًا يكبر ورجلًا يشيخ، وكل دكّان حفظ أسرار العائلات قبل أن تحفظها الأوراق الرسمية.
إربد ليست مدينة فقط… إنها ذاكرة مفتوحة. من يعيش فيها يعلم أنّ الحارة ليست جدرانًا، بل علاقة بين الناس، وأنّ الأصل لا يذوب مهما تغيّر الزمن. ولهذا، مهما امتدّت المدينة واتّسعت الأبواب والوجوه، يبقى شعور الانتماء القديم حيًا… يعود كلما استنشقت هواء وسط البلد أو مررت بجانب بيت تعرفه منذ ثلاثين سنة.
في نهاية كل جولة في شوارعها، تكتشف الحقيقة: إربد لا تتغير… نحن الذين نتغيّر، أما هي فتبقى في القلب كما كانت…