* حوار من ذهب وضمير

في زمنٍ تتنازع فيه الأصوات على الميكروفون العام، يطلّ علينا معالي الدكتور جواد العناني بوجهه الهادئ ولسانه العاقل، ليذكّرنا أن الفكر لا يشيخ، وأن التجربة حين تتكلم، فإنّ الوطن يصغي. ولم تمضِ لحظات حتى جاءه صدى الصوت من معالي الدكتور عز الدين كناكرية، بذوقه الاقتصادي الممشوق، يعاتب برفق المحب، لا بحدة الخصومة، وكأنّ الحوار بينهما قصيدة من شعر الحكمة تتهادى بين دفّتي المحبة والمسؤولية.

لقد سرّني، كواحدٍ من مدرسة صاحبي المعالي ومن ساهموا بتأسيس الضمان الاجتماعي عام ١٩٨١، و القى ما يزيد عن ٣٠٠ محاضرة خلال سنة ونصف، عن مفهوم الضمان الاجتماعي ، أن أرى بين هاتين القامتين هذا العتاب الراقي الذي يذكّرنا أن الخلاف في الرأي بين الكبار يشبه اختلاف النغمات في سيمفونية واحدة ، كل نغمة تكمّل الأخرى. غير أنّ جمال النغم لا يمنع الأذن الواعية من أن تلتقط موضع الخلل في العزف.

ما غرد به الدكتور العناني عن ضرورة أن يُحسن صندوق استثمار الضمان إدارة سيولته واستثماراته هو بيت القصيد في قصةٍ تتعلق بأمن أجيالٍ كاملة، وما أكّده الدكتور كناكرية من أن الحكومة تعامل الصندوق بعدالة في أسعار الفائدة يستحق التقدير إن صحّت تفاصيله.
لكنّ بين القولين مساحة تحتاج إلى ضوء، لا إلى جدل.

فربّما آن الأوان أن نطلب من الضمان أن يكون أجرأ في الإفصاح وأدقّ في التوضيح، لا لأننا نشكّ، بل لأن الشفافية تزيد الثقة، كما يزيد الغزلُ حُسنَ العاشق. ولعلّ في ملاحظة الدكتور العناني عن ضرورة إدارة السيولة بعقلٍ تكنولوجي حديثٍ ما يُشير إلى أن الاقتصاد لم يعد يعيش على “النية الطيبة" فقط، بل على الخطة الذكية.

إنّ كليهما معالي الدكتور جواد، ومعالي الدكتور عز الدين اللذين أكن لهما كل تقدير واحترام وافضالهما علي كثيرة، يشكّلان وجهين لعملة واحدة: الأول صكّها بخبرة السنين، والثاني يصون بريقها في مؤسسات الدولة.

لكنّ النقود كما الاستثمارات لا تحتفظ بقيمتها إن توقفت عن الحركة. لذلك، فالحوار بينهما يجب أن يتحوّل من "عاتبني برفق" إلى "اتفقنا على خطة"، ومن "كلمة شرف" إلى "وثيقة رقم".

أختم بالقول: ما أجمل أن يكون الخلاف بين صاحبي المعالي يشبه الغزل بين عاشقين للفكرة نفسها — فكرة أن المال العام أمانة، وأن الضمان الاجتماعي ليس صندوقًا ماليًا فحسب، بل صندوق ثقة، وثروة، وضمير.

وما أجمل أن يبقى العتاب بين الأصدقاء، لا بين الأطراف، فهناك يكمن سرّ الإصلاح: أن نختلف بودّ، وننتقد بحبّ، ونحرس الوطن بابتسامة رفاقٍ قدامى يعرفون أن الحقيقة لا تقلّ جمالًا عن الوفاء.

مع كل التقدير والاحترام للقامتين الاردنيتين الوفيتين اللتين نتعلم منهما وهما ذخراً للوطن معالي الدكتور جواد العناني وزميله معالي الدكتور عز الدين كناكرية.

* مركز فرح الدولي للدراسات والابحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ajlouni.me