العاصمة الإدارية في القطرانة .. رؤية الرفاعي لإعادة هندسة الدولة
د. مثقال القرالة
03-11-2025 03:10 PM
على مدى عقدين من الزمن وأنا أتابع المشهد الأردني بحروفٍ لا تعرف المجاملة، وبتجربةٍ علمتني أن بين السياسيين من يتحدث كثيراً ولا يقول شيئاً، ومن يقول القليل فيملأ المعنى كل المساحة. ودولة سمير الرفاعي ينتمي إلى الفئة الثانية، تلك التي تُجيد الصمت حين يجب، وتتكلم حين يكون للكلمة وزن ومسؤولية. فعندما يتحدث الرفاعي، لا يتحدث بصفةٍ شخصية، بل بصفة رجل دولةٍ عاش دهاليز القرار، وقرأ المستقبل كما يقرأ الخبير خرائط الطقس قبل العاصفة. حديثه ليس من أجل المشهد الإعلامي، بل من أجل الوطن. كلماته متينة، مدروسة، ومُحمّلة بنبض الأردني الذي يعرف جيداً معنى الاستقرار، ويُدرك أن الوطن لا يُدار بالمزاج، بل بالعقل والمنهج والرؤية الطويلة النفس.
في تصريحاته الأخيرة التي تناولت فكرة إنشاء العاصمة الإدارية، أعاد الرفاعي تعريف معنى “الرؤية الاستباقية”. فبينما كان المقترح السابق يدور حول إقامة العاصمة في منطقة الماضونية، جاء الرفاعي ليقدّم قراءةً مغايرة تنبض بالمنطق الاستراتيجي والعدالة المكانية، مقترحاً أن تكون العاصمة الإدارية في منطقة القطرانة، لا لأنها خيارٌ بديل فحسب، بل لأنها تمثل مركز توازنٍ جغرافي واقتصادي جديد يعيد رسم خريطة الدولة. فالقطرانة، كما وصفها الرفاعي، ليست مجرد مساحة على الطريق الدولي، بل عقدة وصل بين الشمال والجنوب، وبوابة عبور نحو نهضةٍ اقتصاديةٍ متكاملة تربط العاصمة بالعقبة، وتفتح المجال أمام محافظات الجنوب لتشارك بفاعليةٍ في عملية التنمية لا أن تبقى متفرجة على نتائجها. إنها رؤية تنموية تُنصف الجغرافيا وتعيد توزيع التنمية بعدالةٍ وذكاء، وتضع الأردن على مسارٍ جديدٍ من التوازن الوطني.
حين يُقدّم الرفاعي طرحاً كهذا، فإنك تدرك أن الرجل لا يتحدث عن بناءٍ عمراني بل عن هندسةٍ وطنيةٍ جديدة، تقوم على تفكيك المركزية الخانقة وبناء دولةٍ أكثر انفتاحاً وتوزيعاً للفرص. فهو يرى أن العواصم لا تُبنى بالحجر وحده، بل تُبنى حين تتكامل العدالة مع الرؤية، والجرأة مع التخطيط. لكن ما يجعل كلام الرفاعي مميزاً هو أنه لا يفصل بين المكان والإنسان، بين البنية التحتية والبنية الاجتماعية. ففي الوقت ذاته الذي تحدّث فيه عن العاصمة الإدارية، شدّد على أهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها العمود الفقري للاقتصاد الأردني، والرافعة الحقيقية لتمكين الشباب. قالها بلهجة الخبير والوطنـي:
“لن ينهض الاقتصاد الأردني ما لم نمنح الشباب القدرة على الإنتاج، ونفكّ القيود البيروقراطية التي تعيق طموحهم.”
في هذه العبارة، تتجلى فلسفة الرفاعي السياسية والاقتصادية معاً: الإصلاح ليس نصوصاً تُكتب، بل بيئة تُصنع. والشباب ليسوا جمهوراً يُصفق، بل قوةٌ تُنتج. فالمشروعات الصغيرة ليست مجرد وسيلة للعيش، بل مشروع كرامة وطنية، يعيد للمواطن ثقته بقدراته، ويحوّل الدولة من راعٍ إلى شريك في الإنجاز. فمن خلال الجمع بين رؤية العاصمة الإدارية في القطرانة ودعم المشاريع الإنتاجية، يرسم الرفاعي خريطة طريق متكاملة عنوانها “التنمية بالعدالة، والنهضة بالعقل”. إنه يفكر كمن يرى الدولة جسداً واحداً، لا مركزاً متخماً وأطرافاً متعبة، بل كياناً متوازناً يعيش فيه المواطن في الكرك أو الطفيلة أو إربد بنفس الكرامة التي يعيشها في عمّان.
وخلافاً لكثير من السياسيين الذين يُغرِقون الناس بالخطابات، فإن الرفاعي يُغرقهم بالمنطق. لا يرفع صوته لأنه لا يحتاج إلى ضجيجٍ ليقنع، فالكلمة عنده تشبه الرصاصة: لا تُطلق إلا حين تكون محسوبة. ومن يعرف تاريخه في العمل العام يدرك أن الرجل لا يلهث وراء المناصب، بل وراء الفكرة، ولا يبحث عن الضوء، بل عن الطريق. فحين يتحدث سمير الرفاعي، تشعر أن الوطن يستعيد لياقته الفكرية، وأن الحوار يعود إلى مكانه الطبيعي: العقل قبل الانفعال، والرؤية قبل القرار، والمصلحة العامة قبل الشعبية اللحظية. هو يتحدث كما يكتب التاريخ: بهدوءٍ لكنه لا يُمحى. فاقتراحه بإنشاء العاصمة الإدارية في القطرانة ليس مجرد مشروعٍ عمراني، بل إعلانٌ صريح عن عودة التفكير الاستراتيجي للدولة الأردنية. ودعوته لدعم المشروعات الصغيرة ليست سياسة اقتصادية عابرة، بل استثمارٌ في الإنسان بوصفه ثروة الوطن الحقيقية. هكذا يتحدث رجال الدولة حين يفكرون بالمستقبل لا بالمشهد اللحظي، وحين يُدركون أن النهضة لا تُستورد، بل تُصنع بعقولٍ مؤمنة وقدراتٍ محلية.
وفي نهاية المطاف، يبقى سمير الرفاعي أحد الأصوات القليلة التي ما زالت تحمل نبرة الدولة وسط ضجيج المصالح. صوتٌ يعرف متى يتكلم، وكيف يقول، ولمن يوجّه رسالته. وحين يتحدث، لا يُذكّرنا فقط بما كان، بل بما يجب أن يكون. إنه لا يقدّم رأياً، بل يُعيد تعريف معنى الرأي الوطني. لا يدعو إلى بناء مدينةٍ جديدة، بل إلى بناء فكرٍ جديدٍ عن الدولة.
وحين يتحدث سمير الرفاعي... يتكلم الأردن.