خطاب الملكة في ميونخ: الضمير الإنساني يواجه صمت العالم
أ. د. هاني الضمور
05-11-2025 01:45 AM
في مدينة ميونخ الألمانية، حيث ما تزال ذاكرة التاريخ تحمل آثار الكراهية التي أشعلت حروباً وأبادات، وقفت الملكة رانيا العبدالله لتخاطب العالم بصوتٍ هادئ لكنه حازم، في قمة “عالم شاب واحد” التي جمعت شباباً من أكثر من مئةٍ وتسعين دولة. لم يكن الخطاب مجرد مشاركة بروتوكولية، بل لحظة نادرة أعادت فيها القيمُ الإنسانية حضورها وسط ضجيج المصالح، وأيقظت ضمير العالم أمام مأساة غزة وما تمثّله من اختبارٍ قاسٍ لإنسانيتنا جميعاً.
قالت الملكة في مستهل كلمتها إن “العالم رأى المأساة قادمة، لكنه لم يفعل ما يكفي لإيقافها”، في جملةٍ قصيرة لخصت واقع النظام الدولي الذي يملك كل أدوات المعرفة والتأثير، لكنه فقد بوصلته الأخلاقية. فالمأساة الفلسطينية ليست حدثاً منفصلاً، بل مرآة لانهيار المعايير حين تُقاس حياة الإنسان بجنسه أو دينه أو موقعه الجغرافي. من ميونخ، تحدثت الملكة بلسان الإنسانية لا السياسة، لتقول إن ما يحدث اليوم ليس فقط أزمة في الشرق الأوسط، بل أزمة في ضمير العالم كله.
في خطابها الذي لاقى صدى واسعاً، حذّرت الملكة من أشكال جديدة للكراهية تتخفّى خلف مسميات براقة، حين تُقدَّم العنصرية على أنها وطنية، والتعصّب كفخر ثقافي، ومعاداة السامية أو الإسلاموفوبيا كحرية تعبير. هذا التحليل العميق لم يكن مجرد وصفٍ للواقع، بل تشخيصٌ لمرضٍ عالميٍّ يتسلل إلى الخطاب العام ويهدد نسيج المجتمعات الحديثة. فالخطر الحقيقي لا يكمن في من يعلنون كراهيتهم صراحة، بل في أولئك الذين يبررونها بالصمت أو الحياد. وقد عبّرت الملكة عن ذلك بوضوح حين قالت: “الكراهية لا تتقدّم وحدها، بل بتمكين من يقولون: الأمر معقّد”، في إشارةٍ إلى أولئك الذين يختبئون خلف التعقيد هرباً من الموقف الأخلاقي.
وما يميّز هذا الخطاب أنه لم يتوجه إلى الزعماء أو السياسيين، بل إلى الشباب، أولئك الذين لم تتآكل فيهم بعدُ فطرة العدالة ولا صدق النية. خاطبتهم الملكة لتقول إن الأمل ليس شعوراً سطحياً ولا تفاؤلاً ساذجاً، بل فعل تمرّدٍ على اليأس، وإن التمسك بالإنسانية في عالمٍ قاسٍ هو أسمى أشكال الشجاعة. الأمل في رؤيتها ليس استسلاماً للواقع، بل مقاومة له، لأن الإيمان بالخير لا يعني تجاهل الشر، بل مواجهته بعزيمةٍ ووعي.
اختيار ميونخ، بما تحمله من رمزية تاريخية، أعطى الخطاب عمقاً إضافياً. فهي المدينة التي عرفت في القرن الماضي كيف يمكن أن يتحول الصمت إلى شريكٍ في الجريمة، وكيف تُزرع الكراهية حين تُترك دون مقاومة. من تلك الأرض التي شهدت دروس التاريخ القاسية، جاء صوتٌ عربيٌّ يدعو إلى ضميرٍ عالميٍّ جديد. فالتاريخ، كما قالت الملكة، ليس مجرد ذكرى، بل تحذير من تكرار الأخطاء، ومناسبة لاستعادة الإيمان بالإنسان مهما اختلفت الأديان أو الأوطان.
انعكاس هذا الخطاب على واقعنا العربي والعالمي واضحٌ ومباشر. ففي زمنٍ تتكاثر فيه الأزمات، وتغيب فيه العدالة عن خرائط السياسة الدولية، يصبح الدفاع عن القيم واجباً لا ترفاً. الخطاب الملكي لم يكن دعوةً عاطفية، بل تحريضاً على استعادة المسؤولية الأخلاقية في عالمٍ بات يعتاد صور الموت دون أن يرفّ له جفن. وهو في جوهره نداءٌ لكل من يملك صوتاً أن لا يصمت، لأن الصمت في وجه الظلم لا ينقذ أحداً، بل يضيف ضحيةً جديدة إلى لائحة الخذلان.
إن كلمات الملكة رانيا لم تكن فقط تعبيراً عن موقفٍ أردني أو عربي، بل عن رؤيةٍ إنسانية ترى في العدالة قيمة كونية لا تقبل التجزئة، وفي الأمل سلاحاً أخلاقياً لمواجهة الحروب والانقسام والتطرف. لقد قدّمت من ميونخ درساً في أن الإنسانية ليست شعاراً يُرفع في المناسبات، بل مسؤولية تُمارس في كل موقفٍ وسلوك. وفي عالمٍ يزداد ضجيجه وضياعه، تذكّرنا هذه الكلمة بأن الأمل ليس وهماً، بل قرار، وأن القرار الأخلاقي اليوم هو ما سيحكم ملامح الغد.