ثمة خيط رفيع بين البساطة في التفكير والجدّية، حين نرى الناس يربطون المطر بالإيمان، كأن الغيم يقرأ صلواتنا، وكأن السماء تفتح نوافذها فقط حين تسمع أصواتنا تتوسّل. ولكن، هل الطبيعة تُصغي أصلًا؟ وهل للغيم آذان؟
حين تمطر في أمستردام أو نيويورك أو طوكيو، لا أحد يخرج ليقول: "السماء استجابت"، رغم أن تلك المدن — وفق تصورنا الشرقي — أقلّ تدينًا وأكثر تحررًا. المطر هناك لا يُقرأ كمعجزة، بل كدورة حياة. بينما في شرقنا، حين تتساقط بضع قطرات بعد جفاف طويل، نهرع إلى نسبها إلى استجابة السماء بعد "الاستسقاء"، وكأن الكون يدار بالاستجداء لا بالقوانين الطبيعية.
لكن السؤال البسيط المزعج يطلّ:
لماذا إذن، ونحن الأكثر صلاة وصيامًا، حين نفتح الخريطة، نجد الصحراء تغطي بلادنا؟ لماذا الجفاف يطوّق الأرض التي نرفع منها الدعاء أكثر من غيرنا؟
إن كان المطر يُمنح على قدر الإيمان، لكان شرقنا غابة من خُضرةٍ وماء، لا بحرًا من رملٍ وعطش.
وحين تصبح هيفاء وهبي، أو أي فنانة، محور نقاش حول نزول المطر من عدمه، تظهر المفارقة الكبرى: كأننا نختزل علاقة الإنسان بالطبيعة وفق فكرة الندّية ! ونغفل أن المطر نفسه لا يعترف بالأسماء ولا بالملابس ولا بالنوايا.
الطبيعة لا تُقايض، لا تُكافئ ولا تُعاقب، إنها تسير وفق نظام أعقد من تصوراتنا الأخلاقية، نظام فيزيائي لا يعرف ما الإيمان، ولا يميّز بين مؤمنٍ و غير مؤمن ، عادلٍ أو فاسد.
نطالب الله بالمطر، وننسى أننا نحن من قطعنا الأشجار، لوّثنا الأنهار، ودفنّا البحر بالإسمنت. نصرخ إلى السماء لتغيثنا، بينما نحن من خنق الأرض بالدخان والطمع والفساد.
أليس هذا هو التناقض الحقيقي؟
ليست هيفاء وهبي التي تُناقض "الاستسقاء"، بل نحن.
نحارب بعضنا باسم الله، ننهب ثرواتنا باسم الوطنية، نبرّر الفساد باسم الضرورة، ثم نرفع أيدينا إلى السماء نطلب الغيث، وكأن السماء ستغسل بخيراتها قلوب غارقة في الطمع.
الحروب التي تشتعل في شرقنا ليست صدفة، والفساد الذي يزحف في مؤسساتنا ليس خطأً عابرًا، إنها النتيجة الطبيعية لعقلٍ يريد من السماء أن تغيّر قوانين الطبيعة بينما هو لا يغيّر ما بنفسه.
كيف نرجو مطرًا من الله ونحن نغلق قلوبنا؟
كيف نرجو خُضرةً في أرضٍ فقدت العدل قبل أن تفقد الماء؟
الطبيعة لا تسير وفق الإيمان أو التقوى، بل وفق ميزانها الأزلي: التوازن.
وحين نختل نحن في الداخل، يختلّ الخارج تبعًا لذلك.
المطر لا يُرسل لأنه استُسقي، بل لأنه آن أوانه.
ولو كان المطر مقياسًا للتقوى، لما سالت أنهار أوروبا، ولما كانت صحراء الجزيرة بهذا الاتساع.
في النهاية، ما بين هيفاء وهبي والمطر، ليس سوى مرآة تعكس وعينا المختلط: نخلط بين الدين والظواهر، بين الغيب والعلم، بين القدر وأخطائنا ، بين الحياة و نقيضها.
السماء لا تتكلم لغتنا، لكنها تفهم الاتزان.
وحين نتوازن نحن، سينزل المطر، لا لأننا طلبنا، بل لأننا استحققنا.