الاقتصاد الأردني بحاجة إلى محاسبة خضراء تحمي البيئة وتخفض النفقات
د. مثقال القرالة
09-11-2025 05:17 PM
لم تعد المحاسبة في هذا العصر مجرد نظام لتسجيل العمليات المالية، بل أصبحت علماً متقدماً يتقاطع مع الاقتصاد والبيئة والإدارة العامة في آنٍ واحد. فالعالم اليوم لا يقيس قوة اقتصاده فقط بمعدلات النمو أو العائد على الاستثمار، بل بقدرته على إدارة موارده بشكل مستدام ومسؤول. من هنا يبرز مفهوم “المحاسبة الخضراء” كأحد أهم المفاهيم الحديثة في الفكر المحاسبي، إذ يجمع بين الدقة المالية والوعي البيئي، وبين حماية الموارد وترشيد النفقات. فالاقتصاد الأردني، وهو يواجه تحديات ضاغطة في مجالات الطاقة والمياه والموارد الطبيعية، لم يعد يحتمل الهدر ولا القرارات قصيرة الأجل. فالمطلوب اليوم فكر مالي جديد يعيد النظر في الطريقة التي نحسب بها التكلفة والعائد.
فالمشروع الذي يحقق ربحاً مالياً لكنه يترك أثراً بيئياً ضاراً، لا يمكن اعتباره ناجحاً من منظور المحاسبة الحديثة، لأن كلفته الحقيقية تمتد إلى صحة المواطن وجودة الهواء واستدامة الماء. هذه التكاليف التي كانت تُهمل في الماضي، أصبحت اليوم جوهراً في تقييم الأداء المالي لأي مؤسسة أو اقتصاد.
المحاسبة الخضراء لا تقتصر على إدخال مصطلحات بيئية في الدفاتر، بل هي فلسفة محاسبية جديدة تُعيد تعريف معنى الربحية. فهي تقيس تكلفة التلوث، واستهلاك الموارد، والانبعاثات الكربونية، والنفايات الصناعية والزراعية، وتحوّلها إلى أرقام قابلة للقياس ضمن القوائم المالية. هذه الأرقام ليست ترفاً إحصائياً، بل مؤشرات حقيقية على كفاءة الإدارة وقدرتها على المواءمة بين الربح الاقتصادي والمسؤولية البيئية. لذلك فانه بات من الضروري أن تنتقل المؤسسات الأردنية من التفكير التقليدي في التكلفة إلى ما يسمى بـ “التكلفة الكاملة”، وهي التكلفة التي تشمل كل الأعباء المالية والبيئية والاجتماعية المترتبة على النشاط الاقتصادي. فعندما نحسب تكلفة إنتاج الكهرباء دون احتساب الأثر البيئي للانبعاثات، فإننا نضلل أنفسنا، ونخلق عجزاً مستقبلياً ستدفعه الأجيال القادمة. أما حين نحتسب التكلفة الحقيقية بكل مكوناتها، فإننا نقترب من العدالة الاقتصادية التي توازن بين الاستهلاك والإنتاج، وبين التنمية والبيئة.
المحاسبة الخضراء في جوهرها ليست فكرة تجميلية أو ترفاً فكرياً، بل هي ضرورة اقتصادية ووطنية لحماية المال العام. فهي تساعد المؤسسات على تخفيض النفقات التشغيلية من خلال ترشيد استهلاك الطاقة، وإدارة الموارد بكفاءة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وإعادة استخدام النفايات. إنها وسيلة لتقليل الفاقد وتحويله إلى قيمة مضافة. بل إن بعض الدراسات أثبتت أن تطبيق المحاسبة البيئية يمكن أن يخفض النفقات بنسبة تصل إلى ربع التكاليف السنوية، دون المساس بجودة المنتج أو الخدمة. كما إن الأردن الذي يسعى لتحقيق الاستدامة في كل قطاعاته بحاجة إلى هذا النوع من الفكر المالي الواعي. فالمحاسب الأردني لم يعد مجرد موظف يجمع الأرقام ويقفل الحسابات، بل أصبح شريكاً في صياغة القرار الاقتصادي وصون المال العام. المحاسب في فلسفة المحاسبة الخضراء هو المراقب الذكي على أداء المؤسسة، والمستشار الذي يربط الأثر المالي بالأثر البيئي، وهو صوت الضمير في كل عملية إنفاق أو استثمار.
ولأن الاقتصاد لا ينفصل عن الأخلاق، فإن المحاسبة الخضراء هي الوجه المهني للضمير الوطني. فهي تُحوّل الشفافية من شعار إلى ممارسة، وتجعل من التقارير المالية وثائق للمساءلة لا للتزيين. عندما تفصح الشركات عن استهلاكها للموارد وتأثيرها البيئي بوضوح، فإنها لا تحمي البيئة فحسب، بل تبني ثقة المجتمع والمستثمرين، وتؤسس لاقتصاد نزيه قادر على الصمود في وجه الأزمات. لذلك فأنه آن الأوان أن تتبنى الدولة الأردنية والمؤسسات العامة والخاصة هذا النهج في التقارير المالية والموازنات السنوية. فإدماج البعد البيئي في الحسابات الوطنية ليس ترفاً إدارياً، بل هو إصلاح مالي عميق يحد من الهدر، ويُعزّز كفاءة الإنفاق العام، ويضع الأردن في مسار الدول التي تربط بين التنمية والنزاهة والاستدامة. الاقتصاد الذي يحترم بيئته يحترم نفسه، والمحاسبة الخضراء هي الضمانة التي تجعلنا نحاسب اليوم بدقة حتى لا ندفع غداً ثمن الإهمال.
إن المحاسب الأخضر هو صانع الإصلاح الحقيقي، لأنه يربط الأرقام بالضمير، والقرارات بالمسؤولية، والموازنة بالعدالة. وعندما تصبح هذه الفلسفة جزءاً من فكرنا الوطني، سيتحول الاقتصاد الأردني من اقتصاد يواجه التحديات إلى اقتصادٍ يقود المستقبل، يُوازن بين النمو والحياة، بين الربح والاستدامة، بين الكفاءة والكرامة الوطنية.