facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الهوية الوطنية في عالم بلا حدود


أ. د. هاني الضمور
09-11-2025 11:55 PM

في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتذوب فيه الحدود، لم يعد سؤال الهوية الوطنية ترفًا فكريًا أو جدلًا أكاديميًا، بل أصبح مسألة وجودية يعيشها الفرد في كل مكان. فالعالم الذي كان مقسومًا ذات يوم إلى دول وشعوب وثقافات، صار اليوم قرية كونية تتداخل فيها اللغات والمعتقدات والعادات. ومع هذا التداخل، بدأت الهويات تتعرض لاختبارات صعبة: من نحن؟ ولمن ننتمي في عالم لم يعد يعرف الثبات؟

في أوروبا، على سبيل المثال، وُلد الاتحاد الأوروبي من فكرة تجاوز الهويات القومية نحو هوية مشتركة عابرة للحدود. غير أن التجربة، رغم نجاحها الاقتصادي والسياسي، كشفت عن هشاشة هذا المشروع حين واجه الأزمات. فالبريطاني الذي غادر الاتحاد لم يفعل ذلك بدافع اقتصادي فقط، بل بدافع هوية، حين شعر بأن «البريطانية» تُذوب داخل «الأوروبية». والأمر ذاته ينعكس في فرنسا وألمانيا، حيث ما زال الجدل قائمًا بين من يريد الحفاظ على هوية وطنية متجذرة، ومن يرى في الانفتاح والاختلاط طريقًا لمستقبل أكثر إنسانية.

وفي الولايات المتحدة، نموذج الهويات المركبة بلغ ذروته. فأميركا لم تُبنَ على عرق واحد أو دين واحد، بل على فكرة الانتماء للدستور وللقيم المشتركة. ومع ذلك، فإن الصراع بين الهويات لا يزال حاضرًا في كل انتخابات وكل نقاش عام. فالسود واللاتينيون والآسيويون والأوروبيون يعيشون في وطن واحد، لكنهم ينتمون لعوالم مختلفة. والجدل حول «من هو الأميركي الحقيقي» لم ينتهِ بعد، رغم مرور أكثر من قرنين على إعلان الاستقلال.

أما في آسيا، فالصورة تختلف قليلًا. في الصين، تُعرّف الهوية الوطنية على أساس الانصهار في الدولة المركزية، في مقابل التنوع العرقي واللغوي الهائل. أما في الهند، فإن التعدد الطائفي والديني خلق نموذجًا آخر، فالهندوس والمسلمون والمسيحيون والسيخ يشكلون فسيفساء هوية واحدة تُعرف بالهندية، لكنها ما تزال مهددة بالتوترات والانقسامات.

حتى في الشرق الأوسط، حيث الجذور أعمق من الخرائط، ما زالت الهوية الوطنية تُختبر أمام العولمة والتهجير والولاءات المتشابكة. في لبنان والعراق وسوريا، تُطرح الهوية الوطنية دائمًا على طاولة السؤال: هل الانتماء للدولة أم للطائفة أم للعشيرة؟ وهل يمكن لمجتمع متعدد أن يصنع تعريفًا جامعًا للهوية دون أن يلغي تنوعه؟

العالم اليوم يعيش مأزقًا مزدوجًا: من جهة، تهديد العولمة التي تذيب الخصوصيات وتحوّل الإنسان إلى رقم في شبكة اقتصادية عملاقة، ومن جهة أخرى، تصاعد النزعات القومية التي تحاول أن تعيد تعريف الهوية بطريقة إقصائية، كأنها رد فعل على الخوف من الذوبان. ما بين هذين النقيضين يقف الإنسان المعاصر حائرًا، يبحث عن معنى للانتماء في زمن أصبح فيه الوطن مفهومًا مرنًا، قد يوجد على الخريطة أو في الذاكرة فقط.

ربما يكون الحل في إعادة تعريف الهوية على نحو أوسع، لا باعتبارها انتماءً عرقيًا أو دينيًا، بل باعتبارها منظومة قيم: العدالة، الكرامة، الحرية، الإبداع، والمسؤولية المشتركة. فالوطن في النهاية ليس حدودًا تُرسم على الورق، بل شعور بالانتماء لمجموعة من القيم التي تمنح الحياة معنى واتجاهًا.

الهوية الوطنية في القرن الحادي والعشرين لم تعد مسألة جواز سفر، بل مسألة وعي. من يملك وعيه بقيمه وانتمائه الإنساني، يملك وطنه، حتى لو تاهت الحدود.

"الدستور"





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :