الناخب والنخبة في دول العالم النامية .. من يحتكر القرار ومن يكسره؟
أ. د. هاني الضمور
10-11-2025 12:07 PM
تشهد دول العالم النامي في السنوات الأخيرة جدلًا واسعًا حول العلاقة بين الناخب والنخبة السياسية. علاقة تتأرجح بين نظريات ديمقراطية تضع المواطن في مركز السلطة، وواقع عملي يعيد إنتاج نفس الطبقات الحاكمة عبر أدوات النفوذ والمال والتأثير الاجتماعي. وبين الفكرة والتطبيق تبرز فجوة لا تزال تتسع، تُضعف الثقة العامة، وتطرح سؤالًا جوهريًا: من الذي يصنع التغيير حقًا؟ هل هو المواطن الذي يضع ورقته الانتخابية في الصندوق، أم النخبة التي تمسك بخيوط اللعبة من خلف الكواليس، أم المال السياسي الذي يغلف المشهد بسطوة لا تُرى ولكن يُلمس أثرها في كل تفصيلة انتخابية؟
نشأت النخب السياسية في كثير من دول الجنوب العالمي داخل شبكات مغلقة ومحكومة بالولاءات العائلية أو الاقتصادية أو البيروقراطية. وحين دخلت الديمقراطية بشكلها الانتخابي إلى هذه الدول، لم تتغير البنية العميقة للسلطة. فالانتخابات تُجرى، والنتائج تُعلن، لكن الوجوه والذهنية المسيطرة تبقى كما هي. المواطن يصبح رقمًا في معادلة محسوبة مسبقًا، يُستدعى عند الحاجة، ثم يُعاد إلى هامش المشهد بعد فرز الصناديق. هذه الصورة خلقت حالة من اللامبالاة السياسية في بعض المجتمعات، وشعورًا بأن التغيير مجرد وهم جميل.
وتتعقد الصورة أكثر حين يتدخل ما يُسمّى بالمال الأسود. هذا المال لا يُعرض في العلن، لكنه يتسلل عبر شبكات النفوذ والعلاقات التجارية، ليعيد إنتاج نفس النخبة مرارًا. يتلاعب بوعي الفقراء، يستغل حاجاتهم، يشتري الوقت والثقة والولاءات المؤقتة، ويحوّل الانتخابات إلى سوق نفوذ لا إلى منافسة برامج. وبدل أن يكون الناخب شريكًا في صناعة القرار، يصبح مستهلكًا وهدفًا لإقناع قصير الأمد، ثم يتم تجاهله بعد الوصول إلى السلطة. هكذا تتحول الديمقراطية الشكلية إلى عملية تبرير للسيطرة، لا وسيلة تغيير.
ورغم كل ذلك، فإن العالم شهد في السنوات الأخيرة تحولات لافتة تؤكد أن الناخب قادر على قلب الطاولة حين يقرر أن يمارس سلطته. تجربة نيويورك مثال صارخ على هذا التحول. في واحدة من أكثر المدن نفوذًا، تقدمت فئات مهمشة كانت دائمًا خارج حسابات النخبة: العمال، الطلاب، السود، المهاجرون، والطبقات المتوسطة التي فقدت الثقة في وعود السلطة التقليدية. لم تعتمد تلك الحركات على المال الضخم، بل على تنظيم واعٍ، وقيادات ميدانية، وإصرار على أن السياسة ليست حكراً على أصحاب الامتياز. النتيجة كانت صعود أسماء ووجوه جديدة قلبت موازين القوى وأعادت تعريف معنى التمثيل السياسي من جديد. رسالة التجربة كانت واضحة: حين ينهض الناخب، تسقط المسافات بين المركز والهامش.
يبقى السؤال المفتوح اليوم: هل تدرك شعوب الدول النامية أن القرار كان وما يزال في يدها؟ هل وصل الوعي إلى الحد الذي يجعل المواطن يرى صوته كأداة سلطة لا كرمز شكلي؟ التغيير لا يصنعه الغضب وحده، ولا يكفي أن يرفض الناس النخبة القديمة كي تولد نخبة جديدة. التغيير يحتاج وعيًا سياسيًا مستقلًا عن الدعاية، ومساءلة فعلية، وقدرة على التنظيم، وإيمانًا بأن المشاركة ليست حدثًا انتخابيًا يمر كل بضع سنوات، بل ممارسة يومية تبدأ من النقاش حول الحقوق وتنتهي بمراقبة السلطة ومنعها من الانغلاق على نفسها من جديد.
إن دول العالم النامي تقف اليوم أمام مفترق واضح. إما أن تواصل إعادة تدوير نخبها عبر المال والنفوذ والولاءات، أو تعيد الاعتبار إلى المواطن باعتباره مصدر الشرعية والسلطة. وإما أن يبقى الصندوق أداة تجميل سياسي، أو يتحول إلى أداة إعادة صياغة التاريخ.
كل التحولات الكبرى في التاريخ بدأت من فكرة بسيطة: الناس حين يقررون، ينتصرون. ويبقى السؤال: هل حان وقت القرار؟