أحمد سلامة .. حين تحفر الرواية في الوجدان
أ. د. هاني الضمور
12-11-2025 12:36 PM
في كل زمنٍ تتراجع فيه الأصوات الأصيلة وتعلو الضوضاء، يظهر من يعيد للأدب مكانته الأولى؛ من يجعل الكتابة فعلاً للحياة، لا ترفًا لغويًا ولا تمرينًا على البلاغة. وهكذا يفعل الكاتب الأردني أحمد سلامة في روايته الجديدة «الحافر»، التي أُشهرت هذا الأسبوع في الجامعة الأردنية، في احتفالٍ حمل عبق الكلمة ودفء الحضور وبهجة الفكرة. لم يكن الحفل حدثًا ثقافيًا عابرًا بقدر ما كان احتفاءً بجمال اللغة وقدرة السرد على أن يعيدنا إلى إنسانيتنا.
ولئن لم أكن حاضرًا هذا الحفل البهيّ، فقد وصلتني نسخة مهداة من الكاتب قبل مدة، فكانت بمثابة لقاء مؤجل بيني وبين عملٍ لا يُقرأ بعينٍ ناقدة فحسب، بل بقلبٍ مشدود إلى دهشة الحروف. منذ قراءتي الأولى لـ«الحافر» أدركت أنني أمام نصٍّ استثنائيٍّ لا يكتفي بأن يروي حكاية، بل يفتح في النفس نوافذ من الضوء والوجع معًا. سلامة لا يكتب ليؤرخ لحكاية بطلٍ أو مدينة، بل ليحفر في الذاكرة الإنسانية ما يشبه الاعتراف الطويل.
في «الحافر» يتجلى السرد كمرآةٍ تعكس الإنسان حين يقف أمام ذاته. الخيانة هنا ليست فعلاً عاطفيًا فحسب، بل سؤالًا فلسفيًا يتجاوز العلاقة ليطال جوهر الوجود. كل صفحةٍ في الرواية تمارس عليك غوايتها الخاصة؛ لغةٌ مشبعة بالشعر، مشاهد تنبض بالحياة، ومونولوج داخليّ يعرّي الوجدان بصدقٍ نادر. إنّ الكاتب يمسك بخيوط النفس كما يمسك رسّامٌ بريشته وهو يرسم الألم في أدق تفاصيله.
سلامة في هذه الرواية لا يختبئ خلف السرد، بل يواجه، يصغي، ويفتح مساحة للبوح. كلماته لا تمرّ على القارئ مرور العابر، بل تترك أثرًا يشبه الندبة الجميلة التي تذكّرك بأنك كنت حيًا يومًا ما. هناك شيء من النقاء في لغته، ومن التمرّد في رؤيته، ومن الصدق في طريقته في اقتناص التفاصيل. يكتب وكأنه يعيد صياغة الإنسان من جديد، من رماده ومن صمته.
حين أغلقت الرواية، أدركت أن أحمد سلامة لا يقدّم عملًا فنيًا فقط، بل تجربة وجودية مكتملة. إنّ «الحافر» لا تُقرأ لتُفهم، بل لتُحسّ. إنها نصّ يفتح في القارئ جرحًا جميلاً، ويمنحه في الوقت ذاته ضوءًا صغيرًا يضيء عتمته. في زمنٍ تتراجع فيه القيم الجمالية في الأدب العربي، تأتي هذه الرواية لتؤكد أنّ الكتابة ما زالت قادرة على الإنقاذ، وأن الروائي الحقيقيّ هو من يُشعل في القارئ رغبة في التأمل لا في الهروب.
لهذا، أجدني اليوم أشارك الكاتب فرحته من بعيد، مهنئًا إيّاه على هذا الإنجاز الإبداعيّ الذي يستحق الاحتفاء. وإن لم أكن بين الحضور في قاعة الإشهار، فقد كنت بينهم روحيًا، بين صفحات الرواية التي حفرت في وجداني أثرًا لا يُمحى.
فإلى الصديق المبدع أحمد سلامة:
هنيئًا لك «الحافر» التي ستظلّ شاهدةً على أن الكلمة الصادقة لا تموت، وأن الإبداع حين يُكتب بصدقٍ لا يحتاج إلى إعلانٍ كي يُضيء.