facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




إعادة تخيّل التنمية: من رفاهية المؤتمرات إلى أثر الميدان


أ.د وفاء عوني الخضراء
15-11-2025 12:47 PM

نمر اليوم بلحظة حاسمة تتطلب إعادة التفكير في مسار التنمية في العالم. فقد أصبح الإنفاق الكبير على المؤتمرات واللقاءات والفعاليات روتيناً متضخماً يسبق الفعل ويتجاوزه. ورغم أهمية الحوار والتشبيك، إلا أن الإفراط في المؤتمرات والفعاليات حوّلها إلى غاية بحد ذاتها، لا وسيلة للتغيير. نكتب وثائق أكثر مما نختبر حلولاً، وننتج توصيات أكثر مما ننتج أثراً، والنتيجة أن التنمية بحد ذاتها التي تشكل أساس تقدم الدول والمجتمعات والشغل الشاغل للعالم أجمع أُفرغت من جوهرها.

التجارب التنموية العالمية تؤكد أن التغيير المستدام لا يُصنع في القاعات، بل في الميدان، في لحظة الاحتكاك الحقيقي مع المجتمع، وفي اختبار المبادرات، وتصميم النماذج العملية، وآليات تطبيقها. وهنا تظهر إحدى الإشكاليات البنيوية التي تعيق تطورنا: ما يسمى بالإغلاق الاجتماعي.

الإغلاق الاجتماعي في سياق التنمية هو آلية تُقصي من لا ينسجم مع المعايير السائدة "للخبرة" والتنمية، ويتسبب في احتكار التمويل والفرص والمعرفة في العالم داخل دائرة مغلقة من الفاعلين. وفي العالم يأخذ هذا الإغلاق شكلين رئيسيين، الأول: إغلاق داخل الحقل التنموي نفسه، حيث يتصدر المشهد من يملكون رأس مال لغوي (الإنجليزية)، وثقافي (خطاب التنمية الدولي)، وشبكي (العلاقات مع الجهات المانحة).

أما الخبرات الميدانية، من شباب ومجتمعات محلية وممارسين الذين يعرفون الواقع من الداخل، فتُستبعد لأنها لا تلبس "الشكل المقبول" للخبرة، رغم أنها الأكثر قدرة على ابتكار حلول واقعية. الثاني: إغلاق ناتج عن التمويل الدولي، فالتمويل غالباً ما يذهب لمن يتقن كتابة المقترحات في ورقة مفهوم المشروع ضمن قوالب محددة، وليس لمن يملك فهماً عميقاً للتحديات اليومية في المحافظات والمجتمعات. وبذلك يصبح التمويل أداة لإعادة إنتاج الفجوات بدل سدّها.

وفي ضوء هذا الواقع، وأمام الإغلاق الاجتماعي وما يستتبعه من إقصاء وتهميش وتهديد للتنمية الحقيقية، تصبح الحاجة ملحّة لإعادة هيكلة المنطق التنموي نفسه: تحويل الموارد من المؤتمرات إلى تصميم الحلول، ومن الوثائق إلى النماذج التجريبية، ومن الخطاب إلى الأثر.

التنمية الفعّالة تبدأ بسؤال بسيط: ما الذي سيتغيّر في حياة الناس لو أنفقنا هذا المال هنا وليس هناك؟ والإجابة الأكثر فعالية واضحة هي الأخرى، معامل تطوير محلية، فرق ميدانية متعددة الاختصاصات، اختبارات تجريبية في المجتمعات، ونماذج أولية قابلة للتوسع، هي الأدوات الجوهرية والبنيوية التي تصنع التنمية العادلة لا المساحات المُكيّفة للعرض والتقاط الصور.

إنّ التنمية ليست ممارسة تُنتَزع من سياقها أو تُنتج في فراغ؛ بل هي فعل اجتماعي ينبثق من واقعٍ محدّد، ومن مجتمعٍ له احتياجاته الخاصة.

التنمية فعلٌ يولد من الأرض أولا قبل الأوراق، فهي لا تنجح حين تُفصَل عن سياقها، أو حين تُختزل المجتمعات في نماذج جاهزة لا ترى احتياجاتها ولا هشاشتها. وعندما تُصمَّم التدخلات بعيداً عن الواقع، تتحول، من حيث لا نقصد، إلى عبء يضاعف الاختلالات بدل أن يداويها.
التنمية تحتاج أن نعيد تخيلها لتكون خياراً معرفياً وسياسياً يرفض أولوية الوثيقة على الخبرة الحيّة والواقع المعيش، ويرفع صوت الناس فوق تمثيلهم الرمزي، حيث تبدأ التنمية حين نصغي، ونبني، ونعمل.

مثال مختصر ومباشر

في العادة، تعتمد بعض المؤسسات على عقد مؤتمرات تتطلّب ميزانيات كبيرة تشمل القاعات الفندقية، والخدمات اللوجستية، والتغطيات الإعلامية. ورغم أهمية هذه المؤتمرات في بعض السياقات، فإننا نستطيع في أحيان كثيرة، استحداث أساليب جديدة تُبرز الأردن نموذجًا حيًّا في ترشيد الموارد وتوجيهها نحو الميدان. فلو جرى توجيه جزء من الميزانية المرصودة لمؤتمر واحد إلى إحدى البلديات في المملكة الأردنية الهاشمية، أي إلى قلب المجتمعات حيث تتكوّن التنمية الحقيقية، لأمكن تحقيق أثر أعمق وأكثر استدامة.

يمكن، مثلاً، تخصيص ميزانية مؤتمر واحد لإنشاء "مركز دعم المشروعات الصغيرة للشباب" داخل مبنى البلدية. هذا المركز يضم على سبيل المثال لا الحصر، مساحة عمل مشتركة للشباب، ومدرباً مالياً يعلّمهم أساسيات الإدارة والميزانيات، ومستشاراً قانونياً يساعدهم على تسجيل مشاريعهم، وورشاً شهرية في إعداد خطط العمل وتحليل التكاليف والتسويق الرقمي، وصندوقاً صغيراً للمنح الأولية لدعم أفضل ثلاثة مشاريع ناشئة في الحي.

بهذا الأسلوب، تتحوّل تكلفة مأدبة مؤتمر تُستهلك في ساعات، إلى بنية اقتصادية حيّة يخرج منها شباب قادرون على إدارة مشاريعهم بوعي مالي وإداري، ويستطيعون تحويل حيّهم من منطقة مهمّشة إلى مساحة إنتاج وفرص.

إن توجيه الموارد إلى الميدان ليس إجراءً فنياً، بل خيار سياسي يصنع تنمية حقيقية ويعيد للناس دورهم في تشكيل مستقبلهم. فما يُنفق على بروتوكولات المؤتمرات يمكن أن يتحول، حين يُستثمر في البلديات وبين الشباب، إلى مشاريع تُحدث فرقاً ملموساً. بهذا النهج، يستطيع الأردن أن يقدّم للعالم طريقة جديدة في العمل التنموي، طريقة تنبع من الواقع وتصنع الأثر، لا من تقليد نماذج الآخرين.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :