التحول الرقمي للمصارف: الأردن على أعتاب تجربة خليجية الطابع
د. محمد فخري صويلح
15-11-2025 11:39 PM
يشكّل التحول الرقمي في القطاع المصرفي أحد أبرز التحولات البنيوية في المشهد المالي العالمي، إذ لم يعد التحول الرقمي خياراً أو ترفاً أو مكملاً، بل أصبح ضرورة استراتيجية لإعادة تعريف العلاقة بين البنوك وعملائها، وتعزيز كفاءتها التشغيلية، واستدامة نماذج أعمالها.
وفي هذا السياق، قدّم تقرير «Global Digital Banking Adoption – Strategic Evolution and Future Directions» الصادر عن مجموعة CR2 التابعة لـ HPS Group قراءة معمقة في تطور الخدمات المصرفية الرقمية واتجاهاتها المستقبلية، عاكساً مشهداً عالمياً يتجه بخطى متسارعة تسابق الزمن نحو نماذج المصرفية الرقمية الكاملة والمنصات السحابية المتكاملة،، وليطوي بعد ذلك مسيرة العقود الماضية من النماذج والتطبيقات التقليدية للعمل المصرفي.
وقد ركز التقرير على أن المصارف لم تعد كيانات تقليدية تعتمد على الفروع والمكاتب والمباني والحيز المادي التقليدي المتعارف عليه، بل أصبحت منصات رقمية متكاملة تتيح إدارة الحسابات، والمدفوعات، والحصول على التمويل والمشاركة في الاستثمار عبر بيئة ذكية مؤتمتة، وتشير البيانات إلى توسع عالمي في اعتماد نموذج SaaS (Software as a Service) والذي يتيح للبنوك التحول نحو حلول تشغيل مرنة منخفضة التكلفة مقارنة بالنظم التقليدية، حيث بلغت نسبة العقود الرقمية السحابية نحو 94% من إجمالي العقود الجديدة في 2023.
كما برزت المحافظ الرقمية (Digital Wallets) باعتبارها ركيزة الخدمات المصرفية المستقبلية، مما يجعلها المكوّن الأساس لعمليات الدفع، والتحويل، والتمويل الأصغر، خاصة في الأسواق الناشئة ذات الشمول المالي المحدود.
ويؤكد التقرير أن نجاح التحول الرقمي يتطلب عوامل ثلاثة رئيسة تتمثل في الابتكار التقني، والأمان السيبراني، والحوكمة التنظيمية،، وأن غياب أحدها يجعل التجربة المصرفية أكثر عرضة لفقدان تنافسيتها أمام المصارف الرقمية الجديدة أو شركات التكنولوجيا المالية (Fintech) التي تقدم خدمات مالية أسرع وأكثر تخصيصاً وأماناً.
ورغم امتلاك الأردن لقاعدة مصرفية راسخة، فإنه ما يزال في بدايات التحول نحو المصرفية الرقمية الشاملة،، وقد أطلق البنك المركزي مبادرات واعدة مثل eFAWATEERcom لتوسيع قاعدة الشمول المالي، غير أن التشريعات الخاصة بالبنوك الرقمية المستقلة ما زالت في مراحل التطوير والاستكمال والشمول.
فيما تمثل البنوك الإسلامية الأردنية نحو ربع القطاع المصرفي الأردني، وهي تسعى بذلك لتكون مؤهلة لقيادة المرحلة المقبلة، لكنها – في الوقت ذاته- تحتاج إلى قفزة رقمية نوعية تتجاوز التطبيقات البسيطة إلى نموذج المحفظة الرقمية المتكاملة التي تضم الحسابات، والمدفوعات، والاستثمار، والخدمات الوقفية الرقمية المتوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
كما يشكّل ارتفاع نسبة امتلاك الهواتف الذكية (أكثر من 90% وخصوصاً لدى جيل Z والذي يمثل مستقبل المصرفية الرقمية) مقابل محدودية الحسابات البنكية (أقل من 70%) فرصة كبيرة لتوسيع قاعدة العملاء من خلال الخدمات المصرفية عبر الهاتف الذكي المحمول، وهو ما يؤكد أن التحول الرقمي في القطاع المصرفي لم يعد ترفاً تقنياً، بل مساراً وطنياً للشمول المالي والتمكين الاقتصادي، خاصة للفئات الشابة والنساء والعاملين في القطاعات غير المنظمة.
ومما لا شك فيه أن دول الخليج ولاعتبارات كثيرة قد سبقت بقية دول المنطقة في تبني التحول الرقمي المصرفي، فقد أطلقت الإمارات بنك Zand كأول مصرف رقمي شامل، والسعودية رخصت لبنكين رقميين بالكامل (STC Bank وSaudi Digital Bank)، فيما تحولت البحرين إلى مركز إقليمي للفنتك الإسلامية من خلال Fintech Bay.
ولعل سابقة التجربة للدول الخليجية رسخ مجموعة من الدروس والعبر للتجربة الأردنية المقبلة تتمثل بشكل أساس بثلاثية:
1.اعتماد منهجية الحاضنة التنظيمي (Regulatory Sandbox) لدعم وتسهيل الابتكار المالي.
2.إنشاء وحدات رقمية داخل البنوك التقليدية كمرحلة انتقالية نحو البنك الرقمي الكامل.
3.دمج التكنولوجيا المالية الإسلامية في نموذج العمل لتقديم خدمات تمويل واستثمار متوافقة شرعاً عبر المنصات السحابية.
كما تجاوزت نسب استخدام المحافظ الرقمية في دول الخليج 70% من السكان البالغين، بفضل دمجها في منظومة المدفوعات الحكومية والرواتب، ما يقدّم نموذجاً عملياً يمكن للأردن استلهامه لتطوير محفظة إسلامية وطنية مثل “Jordan Islamic Pay” بإشراف رقابي وشرعي متكامل.
وتشير التوقعات إلى أن الأعوام الخمسة القادمة ستكون مرحلة التحول الفعلي في الأردن، وفق المسار التالي:
2025–2026: رقمنة العمليات الداخلية بنسبة 50% وإطلاق وحدات “التحول المصرفي الرقمي” داخل البنوك الإسلامية الأردنية.
2026–2028: تطوير محافظ رقمية متوافقة مع الشريعة، تجمع التمويل الصغير، التبرعات، والوقف.
2028–2030: تأسيس أول بنك رقمي إسلامي أردني مستقل برخصة متخصصة، وربطه بخدمات استثمارية وتحويلات المغتربين.
وفي المقابل، سيواجه القطاع تحديات تتمثل في مخاطر الأمن السيبراني، جاهزية البنية السحابية، وتدريب الكوادر،، وعليه يصبح بناء الكفاءة الرقمية الوطنية أولوية لا تقل أهمية عن بناء رأس المال.
ما سبق يقودنا لتأطير جملة من التوصيات الاستراتيجية، يمكن عرضها وفق المسارات التالية:
إعداد خطة وطنية للتحول الرقمي الإسلامي بالتعاون بين البنك المركزي وجمعية البنوك وهيئات الرقابة الشرعية.
إنشاء المجلس الأردني للمصرفية الرقمية الإسلامية يضم خبراء ماليين وتقنيين.
تبنّي إطار الحوكمة الرقمية الشرعية لتوحيد المرجعيات الشرعية في البيئة الإلكترونية.
استثمار الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبؤي لتخصيص الخدمات وتحسين تجربة العميل.
بناء شراكات مع البنوك الخليجية وشركات الفنتك لتبادل الخبرات وتبني النماذج التشغيلية الحديثة.
وفي الختام ،، فإن المشهد المستقبي يُظهر أن التحول الرقمي في الأردن ليس مسألة وقت فحسب، بل هو مسار استراتيجي يعيد تعريف المصرفية الإسلامية ويضعها في موقع الريادة الإقليمية.
فإذا كانت المصارف الخليجية قد سبقت بخطوات، فإن الأردن يمتلك ميزة نوعية تتمثل في عمق منظومته الشرعية والقانونية، وقدرته على مواءمة التكنولوجيا مع القيم الأخلاقية للمصرفية الإسلامية.
وبحلول عام 2030، يمكن للأردن أن يصبح مركزاً إقليمياً للمصرفية الرقمية الإسلامية، يجمع بين الانضباط الفقهي والابتكار التقني، ويصدّر نموذجاً مصرفياً يوازن بين الربحية والاستدامة والمسؤولية المجتمعية، في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا معيار البقاء والتميّز في الصناعة المالية بكل تجلياتها وصورها المرتقبة.