تحصين الهوية من الانزلاق اللغوي .. حين تغيّر الكلمات ملامح الثقافة
أ. د. هاني الضمور
18-11-2025 03:36 PM
في خضم التحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، بدأت لغتنا العربية تواجه موجة جديدة من المصطلحات المستوردة التي تحمل دلالات مختلفة عمّا استقرّ في ثقافتنا عبر قرون. قد يظن البعض أن الأمر لا يعدو كونه تحديثًا للمفردات أو مسايرة للخطاب العالمي، لكنه في الواقع يتجاوز الشكل اللغوي ليصل إلى عمق الفكرة نفسها، وإلى الطريقة التي ننظر بها للقيم والسلوكيات داخل المجتمع.
أخطر ما في هذه الظاهرة هو استبدال الألفاظ ذات الدلالة الأخلاقية الواضحة بأخرى محايدة أو مخففة. فمثلًا، كان التراث العربي والإسلامي يستخدم مصطلحات محددة مثل “اللواط” للتعبير عن علاقة ذات حكم ديني معروف، بينما يُستعمل اليوم مصطلح “المثلية” كبديل أكثر حيادية أو أقل حدّة. كذلك جرى استبدال كلمة “الزنا”، وهي كلمة ذات حمولة شرعية وثقافية واضحة، بتعابير جديدة مثل “العلاقات قبل الزواج” أو “المساكنة” التي تُخفي خلف صياغتها اللغوية المخففة ثقل الفعل ومعناه الأخلاقي في الثقافة المحلية.
هذه التغييرات قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تُسهم مع الزمن في إعادة تشكيل الوعي الجمعي. فحين تُخفَّف الكلمة، يتخفّف معها أثرها في النفس، ويتحوّل الحكم الأخلاقي المرتبط بها إلى حالة أقل وضوحًا. وتصبح المفاهيم التي كانت يومًا ما محددة وراسخة، جزءًا من مساحة رمادية مفتوحة للتأويل، بل ومهيّأة للتقبّل التدريجي دون إدراك.
التجارب العالمية عبر التاريخ تُظهر أن التغيير اللغوي كان أحد أهم أدوات إعادة تشكيل القيم. فالكلمة ليست مجرد صوت أو حروف، بل وعاء للمعنى والذاكرة. وعندما يُعاد تشكيل هذا الوعاء، يُعاد تشكيل ما يحمله. ومع تكرار استخدام المصطلح الجديد، يضمحل القديم، فتتغيّر زاوية النظر إلى السلوك ذاته، لا لأن المجتمع راجع موقفه، بل لأن اللغة دفعته إلى ذلك ببطء وصمت.
هذا التحول لا يأتي غالبًا من داخل المجتمع، بل من تأثيرات إعلامية وثقافية وافدة تُقدّم مفردات جديدة في سياق مختلف تمامًا عن سياقنا. ومع كثرة الاستخدام، تصبح المفردات الجديدة طبيعية في أذهان الأجيال الصغيرة التي تنشأ بعيدًا عن الدلالات الأصلية للمفاهيم المتوارثة. وهنا تكمن خطورة الظاهرة: تغيير المفردة يقود إلى تغيير الفكرة، وتغيير الفكرة يقود إلى تغيير السلوك.
التحذير من هذا الانزلاق اللغوي ليس دعوة إلى رفض كل جديد، ولا هو مطالبة بصدام ثقافي، بل هو دعوة إلى وعيٍ لغوي يحترم اختلافات العالم لكنه لا يفرّط في مفرداته الأصيلة. فالدفاع عن الكلمات التي شكّلت وعينا ليس تعصّبًا، بل حفاظ على تاريخ ولغة وهوية.
إن إعادة تسمية الأشياء ليست أمرًا بسيطًا؛ فالكلمة التي تُستبدل اليوم، قد تُستبدل معها غدًا منظومة قيم كاملة. وحين تخسر اللغة معانيها، يخسر المجتمع بوصلته الأخلاقية تدريجيًا، ويجد نفسه يتشابه مع ثقافات أخرى دون أن يشعر، بل ودون أن يختار ذلك أصلاً.
في النهاية، الكلمات ليست زينة للخطاب، بل قواعد أساسية في بناء الوعي. وإذا سمحنا لها بالانزلاق دون وعي، فقد نخسر شيئًا من هويتنا ونحن نظن أننا نكتسب “حداثة لغوية” لا أكثر.