شغور المقعد النيابي: قراءة قانونية في فلسفة المادة (58)
د.جلال الشورة
19-11-2025 12:51 AM
يشكّل شغور المقاعد النيابية إحدى القضايا الأكثر حساسية في الحياة البرلمانية الأردنية، لما له من تأثير مباشر على تمثيل الإرادة الشعبية واستقرار التوازن الحزبي داخل مجلس النواب. وقد أعاد تطبيق المادة (58) من قانون الانتخاب لسنة 2022 فتح نقاش واسع حول الكيفية التي يُملأ بها المقعد الشاغر، خصوصًا في حالات الفصل الحزبي أو الاستقالة، وما إذا كان يلزم أن يكون البديل من الفئة ذاتها مثل الشباب أو النساء، أم أن المرجعية المطلقة هي ترتيب القائمة.
تنطلق المادة (58/أ) من قاعدة عامة واضحة مفادها أن أي مقعد يشغر في مجلس النواب ـ لأي سبب كان ـ يُملأ بالمترشح الذي يليه في ترتيب القائمة التي فاز عنها النائب. هذه القاعدة تجسّد روح النظام النسبي، الذي يقوم على احترام ترتيب القوائم كما صوّت عليها الناخبون، دون النظر إلى الفئة أو الصفات الشخصية للنائب الشاغر.
غير أن المشرّع لم يترك النص عامًا بالكامل، بل خصّصه في الفقرة الثانية عندما تناول المقاعد المخصّصة للفئات القومية أو الدينية مثل الشركس والشيشان والمسيحيين، إذ اشترط أن يكون البديل من الفئة ذاتها حفاظًا على خصوصية تمثيل هذه المكوّنات في المجلس.
أما الفقرة الثالثة، فقد تناولت حالة المقاعد المخصصة للمرأة والشباب عند الشغور "لأي سبب عام"، كالوفاة أو فقدان الأهلية أو الاستقالة غير المرتبطة بالحزب. وفي هذه الحالات، إذا كان المقعد من حصة الشباب أو النساء، فإنه يُملأ من ذات الفئة وفق ترتيب القائمة، حفاظًا على التوازن الاجتماعي الذي أراده المشرّع عند تشكيل القوائم.
لكن التحول الأكثر دقة جاء في الفقرة الرابعة، التي قيدت التطبيق بسببين محددين فقط: الاستقالة أو الفصل الحزبي بقرار قطعي. ففي هذه الفقرة، لم يشترط المشرع مراعاة الفئة، بل أعاد الأمر إلى ترتيب القائمة دون النظر إلى ما إذا كان المقعد مخصصًا للشباب أو النساء. وهذا التفريق يعكس فلسفة تشريعية واضحة: فحين يكون الشغور ناشئًا عن قرار حزبي أو انسحاب مرتبط بالكتلة، فإن الاعتبارات الحزبية تطغى على الاعتبارات الفئوية، فيعود البديل إلى ترتيب القائمة مباشرة.
هذه الفلسفة التشريعية تُظهر أن المادة (58) صيغت بمنهجية دقيقة متدرجة؛ تبدأ بالقاعدة العامة، ثم الاستثناءات المرتبطة بالهوية القومية والدينية، ثم التمثيل الاجتماعي (نساء وشباب) في حالات الشغور العامة، ثم التمثيل الحزبي في حالات الفصل والاستقالة الحزبية.
ويتضح من هذا التدرج أن المشرّع حرص على حماية إرادة الناخبين واستقرار المجلس، وفي الوقت نفسه حافظ على الفئات الاجتماعية عند مرحلة تشكيل القوائم، لا عند مرحلة استبدال المقاعد. فتمثيل الشباب والنساء هو شرط تكويني للقائمة، لكنه ليس شرطًا لاستمرارية المقعد بعد الشغور إذا كان السبب حزبيًا.
وبذلك، يظهر أن المادة (58) لا تتعارض في فقراتها، بل تكمل بعضها بعضًا من خلال رؤية تشريعية تستند إلى فلسفة متوازنة بين العدالة التمثيلية والاستقرار البرلماني. وهي رؤية تؤكد أن النظام الانتخابي الأردني يسعى إلى تحقيق تنوع اجتماعي عند بناء القوائم، لكنه في الوقت ذاته يقدّم استقرار المجلس وإرادة الناخبين عند الشغور، خصوصًا عندما يكون السبب سياسيًا أو تنظيميًا.